2011/02/07

كي لا تُخطف الثورة


يعيش العالم العربي اليوم حراكاً شعبياً لم يشهد مثله من قبل، ولم يكن حتى أكثر المتفائلين يتوقع حصوله بهذه السرعة والزخم، فمن تونس وثورتها الشبابية الشعبية الى مصر والجزائر والاردن والسعودية وغيرها، تعيش الشعوب العربية حراكاً داخلياً، يحدوها الامل بالتغيير وفرص عيش كريم يحفظ لها كرامتها الانسانية بعدما حرمت منها لعقود طويلة.
بالفعل، يمكن القول إن أياماً مجيدة يعيشها العالم العربي، وهي أيام لطالما نادى «المثقفون العرب» في ندواتهم «الفندقية» الى هبّة مماثلة واستفاقة الشعوب، ولطالما تساءل كثر خلال حربي غزة ولبنان: أين الشعوب العربية؟ اين الثلاثماية مليون عربي لا ينتفضون ولا ينفضون العار عن دولهم، ولا يهبون لنصرة اخوانهم المظلومين؟
في الحقيقة، ان المطلع على الاستطلاعات والمسوحات التي كانت تقام في أرجاء الوطن العربي، يعرف ان الظلم اللاحق بفلسطين تاريخياً وحديثاً، لم يكن ليشكّل زخماً شعبياً للتغيير في العالم العربي بالرغم من أهميته، وان الوضعين الاقتصادي والاجتماعي سيكونان المحفز للثورة ولا شيء آخر مهما كانت أهميته. ففي استطلاع للرأي العام العربي أجرته مؤسسة زغبي الدولية بالتعاون مع جامعة ميريلاند عام 2005، في ست دول عربية أظهرت النتائج ان شعوب تلك الدول بغالبيتها (60- 70%) تعتبر أن «الأمور الفائقة الأهمية» بالنسبة لها هي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتي أتت في المرتبة الاولى، بينما حلّ في مرتبة ثالثة في الاهمية مسألة حل الصراع العربي الاسرائيلي بعد مسائل الديموقراطية وحرية التعبير.
وبالفعل، كانت الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية هي المحفز للنهضة الشعبية في تونس التي اطلق على ثورتها اسم «ثورة الياسمين». ولعل من حاول اطلاق هذا الاسم كان يحاول تشبيهها بالثورات الملونة التي حصلت في البلقان، خلال العقد الاول من الالفية الثانية، والتي انتشرت كالدومينو تطيح بحكومة تلو الاخرى في أرجاء البلقان وتدخل النفوذ الاميركي الى المنطقة.
واللافت أننا لا نعرف من أين أتى لقب «الياسمين» على تلك الثورة، ونحن لم نرَ ياسمينة واحدة خلال المظاهرات التونسية. وبغض النظر عن هدف التسمية وحسن نية مطلقها، لكن تشبيه الثورة التونسية بثورات البلقان، قد يضرها أكثر مما ينفعها، وقد يعطينا حافزاً للتشاؤم بمستقبل تلك الثورة وخوف من أن تلاقي المصير نفسه الذي واجهته تلك الثورات، وأن لا تعمّر الثورة وأحلامها سوى سنوات قليلة كما حصل في تلك البقعة من العالم.
اعتمدت الولايات المتحدة في البلقان مع بداية الالفية الثانية نوعاً جديداً من التدخلات السياسية، أدّى الى موجة من الانقلابات السلمية او ما عُرف بـ«الثورات الملونة». فبعد الحرب التي شنّها حلف شمالي الأطلسي على يوغوسلافيا لإزاحة الرئيس السابق ميلوسيفيتش، قامت ثورة داخلية عرفت بـاسم «ثورة القرنفل». ثم شهدت الاعوام الممتدة من 2003 الى 2005، ثورات عدة بشرت بانبلاج فجر جديد من الديموقراطية وحقوق الانسان، فبدأ المد الثوري من جورجيا في تشرين الثاني 2003 في ثورة استخدم فيها سلاح وحيد هو الورود الحمر، ولهذا أطلق عليها اسم «ثورة الورود»، وكان من نتائجها أزاحة إدوارد شيفاردنادزه الموالي لموسكو من الحكم وتنصيب ميخائيل ساكاشفيلي حليف الولايات المتحدة الاميركية مكانه.
ثم ما لبث أن امتد النبض الثوري الى أوكرانيا فقامت «الثورة البرتقالية» في خريف 2004 وأدت الى اطاحة فيكتور يانوكوفيتش المحسوب على موسكو، وبدء عهد جديد حليف للغرب مع فيكتور يوشنكو. وتزامنت الحركات الاحتجاجية في لبنان وقرغيزستان في آذار 2005، ففي قيرغزستان قامت «ثورة الزنبق» التي اطاحت بالحكم الموالي لروسيا، وجاءت بالرئيس باكييف المدعوم غربياً الى السلطة، أما في لبنان فقد اطلق الرئيس جورج بوش على التظاهرات التي قامت ضد الوجود العسكري السوري في لبنان على اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري اسم «ثورة الأرز».
لكن لم يكد يمر سنوات قليلة جداً، حتى شحبت الالوان عن تلك الثورات وتحولت من «ملونة» الى «رمادية وسوداء»، فقد ظهر أن من أتت به تلك الثورات الى الحكم لم يكن أقل فساداً من أسلافه، وان آمال التغيير والعيش الكريم التي دفعت الشباب للثورة، كانت مجرد أحلام، فقد استغل الوصوليون تلك الثورات وركب الانتهازيون موجة التغيير، فسرقوا صيحات الثوار وأحلامهم وأمانيهم.
وهكذا، عاد الوضع في تلك البلدان جميعها الى ما كانت عليه قبل الثورات، ففي دول البلقان أعاد الشعب الحكام الموالين لموسكو من خلال الانتخابات، بعدما ضاقت بهم الحال بفساد وسوء ادارة الحكم الجديد. أما في لبنان، فقد اختطف البعض الثورة باكراً، وذهبوا بها الى عمالة مفضوحة وتواطؤ على المقاومة والوطن، وسرق «الثوار الجدد» أموال الخزينة العامة وأفقروا الشعب تماماً كما حصل في دول البلقان. الا ان تصحيح المسار في لبنان يبدو أصعب من البلقان، إما لعدم وجود توازن في القوى الدولية في منطقتنا، أو لنقص في وعي شعبنا وقدرته على التغيير، أو الاثنين معاً.
اننا نعيد التذكير بتلك الأحداث، لنحذّر الشعوب العربية وأهل تونس ومصر على وجه الخصوص من الانتهازيين، مختطفي الثورات وراكبي الموجات التغييرية الساعين لإحلال انظمة فساد وعمالة وتواطؤ على الشعب ومقدراته بما يشبه الانظمة السابقة.
ونعتقد في هذا المجال، أن ثورة الشعب التونسي هي الأقل امكانية للسرقة، فقد أظهر الشباب المتظاهر الحالم بالتغيير، أنه واعٍ ومتحسب لمن يمكن أن يخطف أحلامه، فها هو يستمر بالتظاهر ضد الحكومة الانتقالية التي يترأسها أحد أركان النظام السابق، وفي الوقت الذي استقبلت الحشود الداعية الاسلامي راشد الغنوشي المنفي منذ عقود، قامت مظاهرات مضادة ترفض التخلي عن الحقوق التي اكتسبتها المرأة في تونس، وتتمسك بالحداثة.. ولكن يبقى القلق على مصير ثورة مصر، ليس لعدم ثقتنا بوعي الشعب المصري وثقافته وحسن درايته، ولكن لما لمصر من أهمية استراتيجية بالنسبة لاسرائيل ووجودها في المنطقة، فالنظام المصري شكّل لفترة طويلة سدّ دفاع أمامياً عن اسرائيل وسياساتها العدوانية، وسقوط النظام المصري قد يؤدي الى سقوطها. لذا لن يُسمح لنظام معادٍ لاسرائيل بأن يقوم في مصر، والحل الاسهل بالنسبة للأميركيين والاسرائيليين هو محاولة احتواء الشارع واختطاف الثورة كما حصل في لبنان، وايصال حكم ينفذ سياسات مبارك التطبيعية نفسها مع اسرائيل والتآمرية على شعب غزة.
على شعب مصر العظيم اليقظة، فثورته أمام خطرين كبيرين يجب التنبه لهما، فلا يسمح لحكام ما بعد الثورة بأن يعيدوا مصر الى القرون الوسطى والتكفير وتهجير الاقليات، ولا أن يجعل من الثورة أداة إكساب شرعية للسياسات الانهزامية والتطبيعية مع اسرائيل. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق