2025/09/24

أسبارطة الكبرى".. طريق نتنياهو نحو عزلة "إسرائيل" وانهيارها الداخلي؟


ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 15 أيلول/سبتمبر 2025 خطاباً دعا فيه الى تبني نهج "سوبر إسبارطة" لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، وضرورة مواجهه العزلة السياسية بتبني اقتصاد "ذي سمات أوتاركية" مغلقة تعتمد على الذات.

ودافع العديد من المؤيدين لنتنياهو عن هذا الخطاب بالرغم من أنه يعتبر بالفعل "كابوس حقيقي" وخروج عن كل المعايير الاقتصادية الحديثة التي تعتمد على الاعتماد المتبادل، واقتصاد السوق وغيرها.

فما هي هذه المفاهيم؟ وماذا تعني بالنسبة لـ "إسرائيل"؟

أولاً: الأوتاركية

- التعريف الأكاديمي

في التعبير اللغوي، الكلمة مشتقة من الكلمة اليونانية "autarkeia" (ατάρκεια)، والتي تعني "اكتفاء الذات" أو "الاعتماد على الذات".

 

أما في الاقتصاد، فالأوتاركية (Autarky) هي نظرية أو سياسة اقتصادية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي الكامل للدولة، عن طريق تقليل الاعتماد على التجارة الخارجية والاستثمارات الدولية إلى أدنى حد ممكن، والسعي لإنتاج جميع السلع والخدمات الضرورية محليًا، لتحييد أثر العزلة أو العقوبات.

 

- التطبيقات التجريبية التاريخية

 

وبالرغم من أن جذورها الفكرية قديمة نوعاً ما، لم تظهر الأوتاركية كسياسة دولة إلا في العصر الحديث، وغالبًا ما ارتبطت بأيديولوجيات شمولية أو فترات حرب، وذلك فيما يلي:

 

أ‌- إيطاليا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين (1918-1939)

 

تحت حكم موسوليني، أعلنت "معركة القمح" (Battaglia del Grano) لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء وتحرير إيطاليا من "عبودية الخبز الأجنبي".

 

ب- ألمانيا النازية

 

تبنت نظام "الاقتصاد الحربي" (Wehrwirtschaft) وأقرّت عام 1936، خطة "الاستعداد الاقتصادي لمدة أربع سنوات" لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الاستراتيجية (مطاط اصطناعي، وقود) استعدادًا للحرب. وكان الشعار الشهير: "المدافع قبل الزبدة".

 

ج- اليابان الإمبراطورية

 تبنت مفهوم "مجال الازدهار المشترك لشرق آسيا الكبرى"، والذي كان في جوهره مشروعًا أوتاركيًا يهدف إلى خلق كتلة اقتصادية مغلقة تحت الهيمنة اليابانية، توفر الموارد وتستوعب المنتجات اليابانية.

 

ه- ألبانيا تحت حكم أنور خوجة: ولربما هي المثال الأفضل على الأوتاركية في القرن العشرين. قطعت البلاد علاقاتها بشكل متعاقب مع يوغوسلافيا، ثم الاتحاد السوفيتي، ثم الصين، وعزلت نفسها عمدًا عن العالم، ساعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية.

 

ومن الجدير ذكره، أن جميع التجارب الأوتاركية التاريخية فشلت تقريباً لسببين رئيسيين:

-       تنتهك الأوتاركية مبدأ الميزة النسبية التي ابتدعها دايفد ريكاردو. وبالتالي إن السعي الى إنتاج "كل شيء محليًا" أثبت أنه غير فعال ويؤدي إلى: انخفاض جودة المنتجات، وارتفاع كلفة المواد، تباطؤ الابتكار بسبب غياب المنافسة العالمية، وانخفاض حاد في مستوى المعيشة.

-      يؤدي اعتماد هذا النموذج إلى:

 

§       دولة بوليسية قمعية لفرض العزلة وتوزيع الموارد الشحيحة.

§       حرمان السكان من الوصول إلى السلع والثقافات الاخرى.

§       تحويل الاقتصاد إلى "اقتصاد حرب" دائم، على حساب الرفاهية الاجتماعية.

 

ثانياً- إسبارطة كنموذج للمجتمع العسكري المنغلق

في التاريخ والسياسة، تمثل إسبارطة نموذجًا للمجتمع الذي يضع القوة العسكرية والأمن القومي فوق كل اعتبار، بما في ذلك الرفاهية الاقتصادية والانفتاح الثقافي. هذا يتوافق تمامًا مع فكرة الاقتصاد الأوتاركي الذي يهدف للاكتفاء الذاتي لأسباب أمنية أشرنا إليه سابقاً.

 

 كانت الحياة في إسبارطة منظمة حول إنتاج جنود أشدّاء مخلصين، وكان الاقتصاد والمجتمع يخدمان هذا الهدف الأساسي.

 

ثالثاً: خطاب نتنياهو

يمكن أن نفنّد رسائل خطاب نتنياهو الى ما يلي:

 

إن حديثه عن الأوتاركية يعني اعترافه بالعزلة التي تشتد على إسرائيل نتيجة إبادتها لغزة، أما ربطها تحقيق "إسبارطة عظمى" فيعني إخضاع الاقتصاد بالكامل لاحتياجات الجيش والأمن. وهو، من خلال هذا التشبيه، يطلب من الإسرائيليين الاستعداد لمستوى معيشة أقل ("المدافع قبل الزبدة") في سبيل الأمن والبقاء.

 

مع العلم، أن أسبارطة لم تكن أوتاركية بالمعنى الدقيق (فقد كانت تتاجر مع بعض الجيران)، لكنها سعت إلى تقليل اعتمادها على الخارج إلى الحد الأدنى، خاصة في مجال الغذاء والإمدادات الحربية، لحماية نفسها من الحصار أو الابتزاز الاقتصادي.

 

واستناداً الى التاريخ، يمكن الإشارة الى إسبارطة وبالرغم من أنها كانت قوية عسكريًا ومهابة، لكنها لم تكن "إمبراطورية" بالمعنى الثقافي أو الاقتصادي مثل أثينا. ففي وقت قامت قوة أسبارطة على الترهيب والانضباط الداخلي، كانت أثينا تمثل النموذج المنافس: دولة منفتحة، ديمقراطية، تجارية، غنية ثقافيًا، وتعتمد على الشبكات البحرية والتجارية للقوة والنفوذ

 

ما سبق، يعني أن نتنياهو يدعو لأن تكون "إسرائيل" مستعدة لأن تكون منبوذة اقليمياً وعالمياً، وتتخلى عن طموحها لأن تكون دولة "طبيعية" مندمجة في المنطقة ومحترمة دوليًا، لتصبح قوة عسكرية خالصة ومكتفية ذاتيًا للسيطرة والتوسع على حساب جيرانها، حتى لو كان ذلك يعني العزلة (مثل إسبارطة).

 

وأخيراً، باستخدام هذه التشبيهات، لا يصف نتنياهو سياسة اقتصادية فحسب، بل يروج لرؤية كاملة لمستقبل إسرائيل: دولة منعزلة، قوية عسكريًا، ومنضبطة، ولكنها متخلفة عن الركب اقتصاديًا وثقافيًا مقارنة بالعالم. لكن التاريخ يشهد إلى أن الدول التي اختارت العزلة والتسلح على حساب الانفتاح والاقتصاد الحر انتهت إلى الانهيار من الداخل.

  

2025/09/14

العقوبات الغربية.. هل أفادت الاقتصاد الروسي؟

في ردٍ على الدعوات الأوروبية إلى زيادة العقوبات على روسيا، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب "أنا مستعد لفرض عقوبات كبيرة على روسيا عندما تتفق جميع دول الناتو وتبدأ بتنفيذ الأمر نفسه، وعندما تتوقف جميع دول الناتو عن شراء النفط من روسيا".

 

واللافت أن الأوروبيين ما زالوا يعدّون آلية العقوبات أداة صالحة لكسب الحرب ضد روسيا، واستنزافها بما يدفعها إلى خسائر لا تستطيع معها استئناف الحرب، بالرغم من أن المؤشرات أثبتت عدم صوابية هذه الاستراتيجية على المديين القصير والمتوسط، ولا يمكن التكهن بنجاحها على المدى الطويل.

 

منذ حرب أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، أظهر الاقتصاد الروسي قدرة كبيرة على الصمود والمرونة، ولم يحصل الانهيار الذي توقعه الغربيون على الرغم من فرض عقوبات غير مسبوقة في التاريخ. ويشهد الاقتصاد الروسي معدلات نمو مرتفعة، خاصة في الفترة 2023-2025.

 

وبالرغم من أن الاقتصاد الروسي قد يعاني على المدى الطويل من بعض التحديات، لأن اقتصاد الحرب غير مستدام، ومن صعوبة الوصول إلى التقنيات عالية الجودة (أشباه الموصلات) وتراجع بعض القطاعات كقطاع الطيران المدني أو سواه، يشير العديد من الاقتصاديين إلى أن الغرب أخطأ في حساباته بشأن انهيار روسيا كنتيجة للعقوبات. ويعزو الاقتصاديون هذا الأمر لأن روسيا تمتلك اقتصادًا "حقيقيًا" يعتمد على السلع المادية الملموسة التي يحتاجها العالم، والموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، وليس على حجم الناتج المحلي فحسب الذي قد يعطي مؤشرات غير أكيدة تماماً.

 

وشهد الاقتصاد الروسي ارتفاعاً في معدلات النمو في السنوات التي تلت الحرب الأوكرانية، ويعود ذلك إلى مزيج من العوامل، أبرزها:

 

1-  عدم الالتزام العالمي بالعقوبات

 

لم تثبت العقوبات فعاليتها كما كان متوقعًا، ويعود ذلك أساسًا إلى عدم تبنيها عالميًا من قبل الدول غير الغربية، ولا سيما الصين والهند وتركيا ودول الخليج العربي، ودول الجنوب العالمي... نظرت هذه الدول إلى الصراع على أنه سياسة غربية وصراع لا دخل لها فيه، فأعطت الأولوية لمصالحها الاقتصادية.

 

2ارتفاع أسعار الطاقة:

 

 استفادت روسيا بشكل كبير من الارتفاع في أسعار النفط والغاز العالمية طوال عام 2022، ما وفّر لها إيرادات كبيرة وسهّل عملية تكيّفها الاقتصادي مع الواقع الجديد. وبعد جهود أوروبا للاستقلال عن الطاقة الروسية، تقوم روسيا ببيع النفط والغاز إلى دول أخرى، التي بدورها تبيع الغاز الروسي في الأسواق العالمية، ما يدل على أن حجم ودور روسيا الهائلين في أسواق الطاقة العالمية يجعلانها دولة بالغة الأهمية بحيث لا يمكن عزلها.

 

3نمو الاقتصاد المحلي:

ويمكن إرجاع هذا النمو إلى أسباب متعددة أبرزها:

 

أ‌- زيادة الإنفاق العسكري الذي يعتمد بشكل أساسي على آليات السوق بدلاً من الأدوات القسرية مثل طلبات التجنيد الإلزامي أو التعبئة العامة أو خطط صناعية مفروضة.

 

ب‌- التوظيف في المجمع الصناعي العسكري: للحفاظ على الإنتاج اللازم للمجهود الحربي، زاد المجمع الصناعي العسكري من التوظيف بشكل ملحوظ. ونتيجة لذلك، اضطرت الشركات العسكرية إلى زيادة رواتب موظفيها بشكل كبير لجذب العمالة والاحتفاظ بها.

 

ت‌-  زيادة الاستهلاك وتكيّف القطاع الخاص: أدت الرواتب الأعلى في قطاع الدفاع إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي انسحب على القطاعات الأخرى. تكيف اقتصاد السوق الروسي، عبر شركات خاصة ذات خبرة مع هذا الطلب المتزايد من خلال توفير السلع والخدمات الاستهلاكية.

 

ث‌- دور البنك المركزي الروسي: تصرف البنك المركزي الروسي، بسرعة وفعالية في الأيام الأولى للحرب لمنع تهافت الناس على سحب الودائع المصرفية ومنع انهيار القطاع المصرفي.

 

4العقوبات "نفعت" الاقتصاد الروسي

 

أ‌- احتواء هروب رؤوس الأموال: كانت إحدى المفارقات الأكثر لفتاً للانتباه. أدت مصادرة الاحتياطيات والأصول الروسية في الخارج إلى فقدان الثقة في الأسواق الغربية كملاذ آمن. نتيجة لذلك، اضطر المستثمرون والأوليغارشية إلى إعادة استثمار أموالهم داخل روسيا، ما وفّر سيولة محلية ودعماً للاستثمار في البنية التحتية والقطاعات المحلية، بدلاً من تهريبها إلى الخارج.

 

ب‌- تحفيز "الاستبدال المحلي" والتصنيع الداخلي: أجبرت العقوبات ورحيل الشركات الغربية روسيا على الاعتماد على نفسها. تم اعتبار فراغ السوق الذي خلّفته الشركات الكبرى الأجنبية فرصة ذهبية للشركات الروسية للتوسع وملء الفراغ. هذا أدى إلى تنشيط التصنيع المحلي في قطاعات معينة، وحفّز روح الابتكار للالتفاف على القيود.

 

ت‌- تعزيز السيادة الاقتصادية: دفعت العقوبات الدولة الروسية نحو مزيد من "الانكفاء الاقتصادي المدبر"، ما قلل من اعتمادها على الواردات في السلع الأساسية والغذاء، ودفعها إلى تطوير سلاسل توريد بديلة مع دول "صديقة" مثل الصين والهند وتركيا.

 

في النتيجة، تُسلط هذه المؤشرات الضوء على فشل نظام العقوبات بشكل عام، فلم يحصل أن أدّت العقوبات الأممية أو الغربية إلى سقوط النظام كنتيجة للعقوبات، بل احتاج الغرب إلى تدخل عسكري لاحق لإسقاط النظام كما حصل في العراق.

 

كذلك، لم تؤدِ العقوبات إلى انهيار روسيا وتفككها أو إلى انقلاب الأوليغارشية والجيش على بوتين والإطاحة به، كما كان الطموح الأوروبي (والذي تم التعبير عنه على لسان العديد من المسؤولين) ... وهذا يعني أن فعالية الإكراه الاقتصادي في العلاقات الدولية ليست دائمًا أكيدة، وقد تُسفر عن آثار عكسية. 

2025/09/08

فرضيات حرب غزة: "بين "الفشل الاستخباراتي"... و"الاستدراج الاستراتيجي"


مع اقتراب نهاية السنة الثانية من حرب الإبادة على غزة، لا شيء يشي بإمكانية قبول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انهائها قبل ربيع أو صيف سنة 2026، وذلك للاستفادة مما يعتبرها "انتصارات" حققها لمشروع إسرائيل الكبرى، لتوظيفها في الانتخابات الإسرائيلية في تشرين الأول/ أكتوبر 2026.

مع توسع التحقيقات حول أحداث 7 أكتوبر 2023، تبرز ثلاث فرضيات:

1.    إسرائيل فوجئت بعملية "طوفان الأقصى".

2.    إسرائيل كانت لديها معلومات مسبقة عن استعداد حماس لهجوم أو اختراق للحدود، لكنها قللت من أهميتها ولم تتعامل معها بجدية، كما ذكرت تقارير صحفية مثل صحيفة هآرتس.

3.    المسؤولون الإسرائيليون، بمن فيهم نتنياهو، كانوا على علم بالهجوم لكن غضوا النظر، ربما لاستغلاله كذريعة لشن الحرب على غزة.

الفرضية الأولى والثانية تعكسان فشلاً استخبارياً وأميناً اسرائيلياً، وهو ما تم التركيز عليه اسرائيلياً سابقاً. لكن إذا أردنا البناء على الفرضية الثالثة، فما هي الأهداف التي أرادها الإسرائيلي من تلك الحرب؟

1.    إنهاء القضية الفلسطينية وتهجير أهل غزة

لطالما سعت إسرائيل إلى إيجاد سبل لإنهاء القضية الفلسطينية الى الأبد. وعليه، إذا شنت حماس هجومًا واسع النطاق، فقد تُبرر إسرائيل عمليات عسكرية كبيرة، بما في ذلك إعادة احتلال غزة أو تدميرها بالكامل.

2.   فخ لمحور المقاومة

يشير البعض، الى انه قبل 7 أكتوبر، كانت قوة الردع الإسرائيلية قد تآكلت (تعاظم قوة حزب الله، نفوذ إيران، صمود حماس). وعليه، بالسماح (أو عدم منع) هجوم حماس، يمكن لإسرائيل حينها تبرير رد فعل ساحق يُعيد ضبط قوة الردع ضد جميع الخصوم.

وهكذا، تقوم اسرائيل باستدراج حماس إلى حرب لا يمكنها الفوز بها، وجرّ حزب الله أو إيران إلى مواجهة، بشكل مفاجئ ومباغت، في ظل ظروف مواتية لإسرائيل. ودفع الشعوب العربية الى التطبيع على أساس أن "حركات المقاومة" لا تجلب سوى الدمار، بينما التحالفات مع إسرائيل تجلب الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي.

بهذا المنطق: ألم قصير المدى مكسب استراتيجي طويل المدى.

3.   خطط استراتيجية مُعدّة منذ فترة طويلة

لطالما أراد الإسرائيليون تغيير الشرق الأوسط، وفرض سيطرتهم على المنطقة. منذ حرب تموز عام 2006 استثمرت إسرائيل بكثافة في الاستعداد لمواجهات واسعة النطاق: أنظمة الدفاع الصاروخي، وحرب الطائرات بدون طيار، والقدرات السيبرانية، والعقائد العسكرية "متعددة الأبعاد". ولأنها باتت مستعدة لها، وللسير في مخطط ضرب "محور المقاومة، ذهبت اليها.

وهكذا، قد تُبرّر الحرب في غزة اتخاذ إجراءاتٍ أكثر عدوانيةً في لبنان وسوريا، وحتى إيران، تحت شعار "هزيمة الإرهاب". وهذا يتماشى مع فكرة رغبة إسرائيل في إعادة رسم خطوط الأمن الإقليمي قبل أن تُعزّز إيران أو حلفاؤها نفوذهم أكثر.

4.   التحول الاستراتيجي الأميركي نحو آسيا

بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، وانشغال الأميركيين ومعهم حلف الناتو باستنزاف روسيا، بدأ الأميركيون مرحلة استفزاز الصين لدفعها الى "فخ" الهجوم على تايوان. وبالتوازي، أوحت الأجواء، قبل هجوم حماس، أن التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل يسير بتقدم لافت.

وعليه، أدرك الإسرائيليون أن الأميركيين سيتخلون عن الاهتمام بالمنطقة لصالح الانخراط في شرق آسيا لمواجهة الصين، وفي أوروبا لمواجهة روسيا، معتمدين على ترتيبات السلام والتطبيع والاستثمارات الاقتصادية التي يعتبرون انها تؤمن لإسرائيل الأمن، ولهم النفوذ، وتترك المنطقة مستقرة.

وعليه، بإثارة حرب، قد تدفع إسرائيل الولايات المتحدة إلى إعادة الانخراط عسكريًا ودبلوماسيًا في المنطقة، وتزيد موقع إسرائيل في الاستراتيجية الأميركية، ما يضمن استمرار الدعم والأسلحة والمساعدات المالية.

5. التوقيت الاستراتيجي والانتخابات الأميركية

غالبًا ما يكون للحروب في إسرائيل بعد سياسي أميركي. مع اقتراب الانتخابات الأميركية (عام 2024 آنذاك)، ربما حسبت إسرائيل أن الحرب ستُلزم الحزبين الأميركيين بدعمها دون قيد أو شرط، خوفاً من ضغوط اللوبي وخشية خسارة الانتخابات.

6. الانقسامات الداخلية وخطر الحرب الأهلية

خلال صيف 2023، وبسبب الإصلاحات القضائية، بلغ الانقسام في الداخل الإسرائيلي حداً كبيراً، لدرجة أن العديد من المسؤولين الإسرائيليين توقعوا حرباً أهلية.

وهكذا، يمكن أن تكون الحرب وسيلة "لتوحيد" مجتمع مُجزأ من خلال خلق خطر خارجي، وحرب تطمس الخلافات الداخلية.

7. بقاء نتنياهو الشخصي

كان لنتنياهو، على وجه الخصوص، مكاسب كبيرة من الأزمة، فقد صرفت الانتباه عن الفضائح السياسية وخففت ضغط المعارضة الداخلية، ومنحته القدرة على تأجيل المحاكمات بذريعة الاستهداف الأمني.

وبعد أن كان نتنياهو يواجه مشاكل قانونية وتراجعًا في شرعيته. يمكن للحرب أن:

-  تحشد الدعم حوله كـ"قائد في زمن الحرب". وتجعل المجتمع الإسرائيلي يلتف حوله.

- تؤخر أو تُخمد حركات المعارضة، وتعطيه دفعاً لدى أحزاب اليمين.

- تسمح له بادعاء أهميته في مواجهة التهديدات الوجودية لإسرائيل.

 

في الخلاصة، تبقى هذه فرضية من الفرضيات التي من المبكر تأكيدها.

 لكن، على الأكيد، تكبدت إسرائيل خسائر فادحة، حيث عادت القضية الفلسطينية الى الواجهة العالمية والدولية، وتكبدت إسرائيل كلفة هائلة مركبة الأبعاد: الخسائر البشرية بين الجنود واستنزاف الجيش والإمكانيات العسكرية، التكاليف الاقتصادية الهائلة، التدهور الكبير في الصورة الدولية لإسرائيل واتهامها بارتكاب إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية، تأجيج المشاعر المعادية لإسرائيل في المنطقة والعالم الخ...

 

2025/09/06

نظرية الدوائر الأربع: كيف تتعامل الصين مع الشرق الأوسط؟

شهدت الصين حدثين استثنائيين مهمين الأسبوع الماضي، وضعا الصين في ضوء الاهتمام الدولي، قمة منظمة شنغهاي التي انعقدت في تيانجين، والاحتفالات بالنصر على اليابان والعرض العسكري وخطاب الرئيس الصيني تشي جينبينغ بالمناسبة، والذي تضمن رسائل دولية متعددة وأهمها تجاه الولايات المتحدة الأميركية.

 

وفي هذا المشهد الصيني الذي يشي بتعاظم القوة، يتطلع العديد من شعوب الجنوب العالمي، وخاصة شعوب الشرق الأوسط، إلى صعود صيني يوازن القوة الأميركية، التي يراها العديد في المنطقة بأنها منحازة، خاصة في ظل الدعم المطلق وغير المسبوق لـ"إسرائيل"، التي تمارس حرب الإبادة في غزة بدعم أميركي واضح.

 

فهل تستطيع الصين أن تقوم بهذا الأمر، وهل هناك أمل لشعوب المنطقة بصعود صيني موازٍ يسهم في توازن يحصّل لهم حقوقهم وتطلعاتهم؟

 

"العالم" في النظرة الأمنية الصينية

بعد وصول الشيوعيين إلى الحكم عام 1949، بات المحفز الأساسي للسياسات الخارجية الصينية ينبع من رؤية الصين للتهديدات المحتملة، بحيث تمّ تقسيم العالم إلى "دوائر أربع"، على النحو التالي:

 

- تشمل الدائرة الأولى أراضي الصين نفسها، بما في ذلك تايوان والتيبيت وشينجيانج. في هذه الدائرة تحدد الصين التهديدات لأمنها من الجهات الفاعلة الأجنبية، وتقلبات الاقتصاد العالمي، ونمو المنظمات غير الحكومية في الداخل الصيني، وانتقادات حقوق الإنسان.

 

- الدائرة الثانية وهي المحيط المباشر للصين. وتنبع المخاوف الأمنية الصينية في هذه الدائرة من عشرين دولة مجاورة، بما في ذلك سبع من أكبر دول العالم، وخمس دول مزقتها الحرب، وتسعة أنظمة غير مستقرة. وتقع تايوان في الدائرتين الأولى والثانية.

 

- تتكون الدائرة الثالثة من أنظمة إقليمية مجاورة عددها ستة، ويتضمن كل نظام اقليمي عدة دول.

 

- تشمل الدائرة الرابعة العالم كله خارج نطاق الجوار الصيني المباشر والأنظمة الإقليمية المجاورة.

 

تعتبر هذه المنطقة أساسية للمصالح الاستراتيجية للصين في تأمين الاستقرار، حيث تهدد سياسات الحرب أو تغيير النظم مصالح الصين الاقتصادية وعلاقاتها الدبلوماسية. لكن الصين تفتقر إلى الموارد اللازمة لتعزيز الأيديولوجيات، ودعم الأنظمة الحليفة، أو بناء وجود عسكري كبير في هذه الدائرة.

 

العلاقة الصينية مع الشرق الأوسط

تعود علاقة الصين بالشرق الأوسط الى التاريخ القديم، مع وجود روابط تجارية واقتصادية تعود إلى أكثر من ألفي عام. وخلال عهد أسرة تانغ (القرن السابع)، سافر التجار والكهنة البوذيون الصينيون عبر طريق الحرير، ما أرسى الأساس لتفاعلات معقدة ومتنوعة تميزت بالتبادل الثقافي والتجارة والدبلوماسية. وازدهرت التجارة البحرية خلال عهد أسرتي مينغ وتشينغ، حيث وصلت السفن الصينية إلى موانئ المنطقة وبالتحديد ما يعرف حالياً بإيران والعراق ومصر.

 

أما سياسياً واستراتيجياً، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "خارج نطاق اهتمام الصين"، وذلك استنادًا إلى "النظرة الصينية القديمة للعالم المتمثلة في" الدوائر المركّزة "، والتي كانت تعتبر منطقة الشرق الأوسط بمنزلة "المناطق الداخلية الغربية لمحيطها الغربي".

 

عملياً، انتقلت الصين إلى الدائرة الرابعة، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، لتلبية العديد من الاحتياجات: فتح أسواق جديدة، تأمين إمدادات الطاقة، وتعزيز آفاق الاستثمار، والسعي لكسب الدعم الدبلوماسي.

 

وبعد إطلاق "مبادرة الطريق والحزام"، أصبح الشرق الأوسط منطقة استراتيجية وحيوية للاقتصاد الصيني كمفترق طرق عالمي لا غنى عنه، مع آثار جيو-استراتيجية كبيرة على تلك المبادرة. وقبل حرب أوكرانيا كان حوالى 50٪ من واردات الصين من النفط تأتي من الشرق الأوسط، لكنها انخفضت لاحقاً بعد تركيز الصين على استيراد النفط الروسي.

 

وعليه، هل ستأتي الصين لمنافسة الأميركيين وفرض نفسها لاعباً موازياً في الشرق الأوسط؟

 

لفهم استراتيجية الصين الحالية في الشرق الأوسط، يجب أن نلحظ الحقائق التالية:

 

أولاً: الصين دولة براغماتية تهدف إلى تحقيق مصالحها (خاصة الاقتصادية) في الشرق الأوسط، وبالتالي هي تقيس تدخلاتها بحسب "الجدوى".

 

وبقياس الجدوى، يترابط سلوك الصين وسياستها الخارجية بشكل وثيق مع تصورات الصين للتهديدات الأمنية، وهكذا تبرز متغيرات ثلاثة ذات أهمية قصوى في تشكيل استراتيجيات وبرامج الصين في الخارج:

 

أ) العنصر السياسي الذي يعتمد على ثلاثة مكونات: تعزيز النظام السياسي في الصين، وحماية تماسك الدولة داخل الحدود البحرية والإقليمية، ومواجهة التهديدات الخارجية والداخلية.

 

ب) القوة العسكرية اللازمة لحماية الدولة وتعزيز مصالحها.

 

ج) تقدم الاقتصاد الصيني وازدهاره.

 

ثانياً: ترتبط سياسة الصين في الشرق الأوسط بهواجسها واستراتيجيتها في الدائرة الأولى والثانية، وبالتالي سياستها الشرق أوسطية ليست متغيراً مستقلاً، بل هي متغير تابع يجب تفسيره على أساس تصوّر الصين للتهديدات والمصالح في شرق آسيا.

 

في المرحلة الراهنة، تفضل الصين "إعادة انخراط" الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إن "الانخراط العميق" للولايات المتحدة في أوروبا (لمواجهة روسيا) والشرق الأوسط (للحفاظ على نفوذها وأمن "إسرائيل") من شأنه أن يؤخر أو يقلل من انخراط الأميركيين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين.

 

وانطلاقاً مما سبق، تبدو الصين- حتى الآن- غير راغبة في تغيير البنية الأمنية التي أنشأتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أو في منافسة الأميركيين على النفوذ في الشرق الأوسط. لذا، لن تكون الصين في المدى القريب بديلاً عن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل ستظل لاعباً اقتصادياً مؤثراً أكثر من كونها قوة تسعى إلى الهيمنة. 

2025/08/31

خيارات إيران للرد على تفعيل "آلية الزناد"

أرسلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، تطلب فيها تفعيل "آلية الزناد" لإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران بسبب برنامجها النووي. واتخذت الدول الثلاث القرار للضغط على إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات، بالرغم من أن الأميركيين والإسرائيليين استغلوا التفاوض بين إيران والولايات المتحدة الأميركية لشنّ حرب على إيران وقصف محطاتها النووية. 

تزايد الضغوط الدولية يفرض على إيران إعداد رد استراتيجي متعدّد الجوانب، فالردّ الدبلوماسي المجرد، والتهديد بوقف التفاوض مع الأوروبيين لا يبدو أنه سيجدي نفعاً، خصوصاً أن "الترويكا الأوروبية" تبدو أنها تعمل بدفع من "إسرائيل" والولايات المتحدة لدفع إيران إلى تقديم تنازلات مؤلمة تمسّ سيادتها ومكانتها القانونية.

كيف يمكن لإيران أن ترد؟

1- على الصعيد الدبلوماسي

من الطبيعي أن ينظم الإيرانيون حملة دبلوماسية متعددة الأهداف، تهدف إلى مواجهة خصومها وحشد دعم حلفائها الرئيسيين. وقد بادرت الخارجية الإيرانية بالفعل إلى ذلك معتبرة أن لجوء الدول الأوروبية الثلاث إلى "آلية الزناد" "غير قانوني وغير مبرر" نظرًا لإخفاقاتها السابقة في الالتزام بخطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (JCPOA) بعد الانسحاب الأميركي عام 2018.

وأعرب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي عن استعداد بلاده لاستئناف المفاوضات الدبلوماسية، لكنه اشترط أن تظهر الأطراف الأخرى "الجدية وحسن النية". وكتب عراقتشي على منصة "أكس" أن "تفعيل آلية العقوبات الأممية سيحوّل الترويكا إلى قوة عديمة التأثير في ما يتعلق بإيران، وسيجبر إيران على اتخاذ رد مناسب، ونلفت انتباه أوروبا التي همشتها أميركا من الملفات العالمية بعدم خداع نفسها بتفعيل آلية إعادة العقوبات". 

ولا شكّ، يريد الأوروبيون استخدام "آلية الزناد" كأداة ضغط في المفاوضات، وقد وضعوا ثلاثة شروط أساسية:

1استئناف المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة

2امتثال إيران لالتزاماتها تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما في ذلك السماح للمفتشين الدوليين بزيارة جميع المنشآت النووية.

3الكشف عن مصير كميات اليورانيوم عالية التخصيب ومواقعها، لا سيما تلك التي استُخرجت من المواقع النووية التي ضم ضربها من قبل الأميركيين.

وعلى الصعيد المقابل، يمكن لإيران أن تُصعّد دبلوماسيًا بالتهديد بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، لكنها خطوة محفوفة بالمخاطر، ومن شأنها أن تتسبب بتصعيد قد لا يرغب به الإيرانيون، وقد يستغلها الإسرائيليون لتحريض ترامب على شنّ حرب جديدة على إيران.

وبالرغم من المحاولات الصينية والروسية للدفع ضد تفعيل آلية العقوبات في الأمم المتحدة، فإن الخيارات في هذا الصدد تبدو محدودة. قدمت روسيا، بدعم من الصين، مشروع قرار في مجلس الأمن لتمديد العمل بالقرار 2231 لستة أشهر مع سحب آلية «سناب باك»، معتبرة أن قرار «الترويكا» الأوروبية، «يخلق حالة من الصراع لا يمكن التنبؤ بعواقبها". وبالرغم من ذلك، من غير المتوقع أن يمر القرار الروسي بسبب الفيتو الغربي المرجح جداً استخدامه.


2- على الصعيد العسكري

منذ الحرب الإسرائيلية -الأميركية على إيران، بات هناك حديث متصاعد داخل إيران بشأن الآليات الأمثل لردع الأعداء، ومن هذه الآليات تغيير العقيدة النووية الإيرانية، على اعتبار أنه لو كان لإيران قدرات نووية كالتي تمتلكها كوريا الشمالية لما تجرأ أعداؤها على شنّ حرب عسكرية عليها.

3- على الصعيد الاقتصادي

بالرغم من أنه من غير المتوقع أن يكون هناك التزام عالمي واسع بالعقوبات على إيران، خصوصاً بعدما قوّض الغربيون نظام العقوبات (بعد حرب أوكرانيا) إذ وضعوا الدول أمام خيارين: الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا وتقويض مصالحهم القومية، أو اختيار مصلحتهم الخاصة واختيار الحياد، وهو ما اختارته معظم الدول خارج الغرب الجماعي.

اقتصاديًا، من المرجح أن يركز الرد الإيراني على محاولة تجاوز العقوبات الجديدة وزيادة تكامل اقتصادها مع شركائها غير الغربيين. وعلى الرغم من أن عودة العقوبات سوف تؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المتردي أصلًا في إيران، والذي يتميز بارتفاع التضخم وانهيار العملة، فإن إيران، كما الروس وغيرهم، باتوا أكثر قدرة على التهرب من العقوبات والقدرة على بيع النفط والغاز في السوق العالمي.