2025/11/10

القواعد الآمرة: تقييد سيادة لبنان باطل قانونياً

 

في ظل الحديث عن مبادرات تسوية في المنطقة، يطرح على بساط البحث الحصول على موافقة لبنان على ترتيبات أمنية تحفظ أمن إسرائيل، وتمنع أي عمل ضدها، وضمانات من لبنان بالرغم من عدم ابداء إسرائيل الموافقة على الانسحاب من الجنوب اللبناني ومن الأراضي اللبنانية المحتلة. كذلك، يتم الحديث عن منطقة عازلة خالية من السكان داخل الأراضي اللبنانية، بالرغم من إدراك الجميع أن الجنوبيين لن يقبلوا بأي تسوية أو اتفاقية تقتلعهم من أرضهم وبيوتهم.

يشكّل مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها وحق الدول في السيادة ووحدة أراضيها أحد الركائز الجوهرية للنظام القانوني الدولي الحديث، وقد ارتقى هذان المبدآن إلى مصاف القواعد الآمرة (Jus Cogens) التي لا يجوز الإخلال بها أو تعديلها أو تقييدها بأي اتفاق أو معاهدة.

1-  القواعد الآمرة (Jus Cogens)

تُعدّ هذه القواعد ضمانة أساسية لحماية استقلال الدول وصيانة كرامة الشعوب، وتُعتبر المرجع الأعلى في مواجهة أي ترتيبات أو اتفاقيات تمسّ الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف.

تنص المادة (53) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 على ما يلي:

"تكون المعاهدة باطلة إذا كانت، وقت إبرامها، تتعارض مع قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي العام، ويُقصد بالقاعدة الآمرة تلك التي يُعترف بها من قِبل المجتمع الدولي للدول بأسره بوصفها قاعدة لا يجوز الإخلال بها ولا يمكن تعديلها إلا بقاعدة لاحقة لها الصفة نفسها.”

-      خصائص القواعد الآمرة:

1.    عمومية القبول الدولي: المجتمع الدولي بأسره يعترف بها.

2.    الإلزام المطلق: لا يجوز الاتفاق على مخالفتها.

3.    عدم القابلية للتعديل إلا بقاعدة مماثلة: تتطور فقط بقواعد آمرة جديدة.

 

2- حق تقرير المصير كقاعدة آمرة:

اعترفت محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة في قراراتها بأن حق الشعوب في تقرير مصيرها هو قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي (قضية ناميبيا 1971، الرأي الاستشاري حول جدار الفصل 2004). وأكدت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (خصوصًا القرار 2625 لعام 1970 والقرار 3314 لعام 1974) على شرعية نضال الشعوب الخاضعة للاحتلال من أجل تقرير مصيرها.

كذلك، إن احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها من المبادئ المؤسسة للنظام القانوني الدولي كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة (المادتان 1 و2)، وبالتالي لا يجوز لأي اتفاق أو التزام أن يتضمن تنازلاً عن السيادة الإقليمية أو اعترافًا بشرعية احتلال أجنبي.

وعليه، أي اتفاق دولي يُلزم دولة بالامتناع عن تحرير أرضها أو التخلي عن سيادتها على جزء منها يكون باطلًا منذ البداية لأنه يتناقض مع قاعدة آمرة هي حق الشعوب في تقرير مصيرها.

النتيجة، إن أي اتفاقية سياسية أو أمنية أو اقتصادية تُلزم لبنان بعدم المطالبة بأراضيه المحتلة، أو تمنع التحرير، أو تُقرّ ضمنًا بشرعية الاحتلال الخ... تُعتبر باطلة بطلانًا مطلقًا وفقًا للمادة 53 من اتفاقية فيينا، ولأنها تخالف قواعد آمرة تتعلق بحق تقرير المصير والسيادة الوطنية.

 يضاف الى ما سبق، أن أي اتفاق مفروض بالقوة أو بالإكراه السياسي أو الاقتصادي لا يُنشئ التزامًا قانونيًا صحيحًا، لأن الرضا الحر للدولة شرط جوهري لصحة المعاهدات (المادتان 51–52 من اتفاقية فيينا). 

2025/11/07

الوساطة القسرية: توم برّاك نموذجاً

في موازاة العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، تطرح على بساط البحث مبادرات عدّة، أميركية وغير أميركية، تدعو إلى التفاوض بين لبنان و"إسرائيل"، ويطلق المبعوث الأميركي توم برّاك تصريحات متتالية، منها ما هو مهين للبنانيين، ومنها ما هو تهديدي، ومنها ما ينطلق من تصوره الخاص "التحريفي" للتاريخ والجغرافيا الشرق أوسطية.

 

وفي هذا الإطار، يمكن تقييم الوساطة الأميركية عبر المبعوث توم برّاك بأن جزءًا منها هو امتداد للنموذج الأميركي في التعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي والدعم المطلق لـ"إسرائيل"، والجزء الآخر يرتبط بإدارة الرئيس دونالد ترامب ونموذجه الفريد في العلاقات الدولية.

 

1الوساطة القسرية

تُعد الوساطة الأميركية في الصراعات العربية-الإسرائيلية ظاهرة فريدة تبتعد عن النموذج التقليدي للوسيط المحايد. فبدلاً من تبني دور "الوسيط النزيه"، تعتمد واشنطن على نموذج "الوساطة القسرية" (Coercive Mediation)، حيث تستغل نفوذها كقوة عظمى لتوجيه عملية التفاوض لمصلحة حليفتها "إسرائيل" ما يقوّض فعالية الوساطة ويحوّلها إلى أداة ضغط لا أداة وساطة.

 

في المبادئ الأساسية لعلم الوساطة والتفاوض، يشار إلى أن التفاوض المثمر يجب أن يكون "قائماً على المصالح"، أي يجب أن تكون هناك مصلحة لكل طرف، بهدف التوصل إلى اتفاق. لكن المقاربة الأميركية في لبنان غالباً ما تتبنى "المواقف الموضعية" (Positional Stances) التي تعكس الأجندة الإسرائيلية بشكل حصري.

 

على سبيل المثال لا الحصر، عندما يعرض المبعوث توم براك شروطاً تفاوضية تركز على "نزع سلاح المقاومة في لبنان، من دون أي التزام موازٍ بالانسحاب من النقاط المحتلة أو تطبيق اتفاق وقف الأعمال العدائية الموقّع في تشرين الثاني 2024، فإنه عملياً يتبنى موقف "إسرائيل" لا موقف الوسيط الذي تعهد بضمانة الاتفاق.

 

2-  تكتيك "التراجع وإلقاء اللوم" (The Blame Game)

منذ تسلم توم برّاك مهمته، تتكرر دوامة قدومه إلى لبنان لعرض ورقة، يقبل بها لبنان، فيذهب بها إلى "إسرائيل" التي ترفضها، فيقوم برّاك بلوم لبنان، وتقديم ورقة جديدة أخرى فيها شروط إسرائيلية إضافية وتنازلات أكثر من لبنان.

 

إن قيام توم برّاك بإلقاء اللوم على الطرف اللبناني بعد الرفض الإسرائيلي يُعدّ تكتيكاً تفاوضياً قسرياً، يهدف من خلاله إلى ما يلي:

 

أ‌- تخفيف الضغط عن "إسرائيل": بتحويل الانتباه الدولي عن الرفض الإسرائيلي وإعطائها مبررات للتصعيد والعدوان المستمر على لبنان.

 

ب‌- زيادة كلفة الرفض على لبنان عبر الضغط النفسي والسياسي والحرب النفسية التي تُشن على لبنان عبر أدوات سياسية وإعلامية، لإجبار لبنان على تقديم تنازلات إضافية في الجولة القادمة. هذا السلوك يرسخ فكرة أن لبنان يُعاقَب على مرونته التفاوضية، في حين تُكافأ "إسرائيل" على تصلبها وعدوانها المستمر.

 

ت‌- يُعد توجيه التهديدات أو الإهانات من قبل الوسيط تجاه أحد الأطراف (اللبنانيين في هذه الحالة) أقصى درجات الانحراف عن مبدأ الحيادية. إن الإهانات اللفظية الموجهة إلى اللبنانيين تُعد محاولة لتقويض "المكانة التفاوضية" للطرف اللبناني، ما يزيد من الضغط النفسي والسياسي ويجبره على الاستسلام للمطالب الأميركية/الإسرائيلية.

 

3-  استخدام مفهوم (BATNA)

يشير مفهوم "باتنا"  (Best Alternative to a Negotiated Agreement) إلى أفضل نتيجة يمكن لطرف ما تحقيقها إذا فشلت عملية التفاوض في التوصل إلى اتفاق مقبول.

 

في نظرية التفاوض، تُعد قوة الطرف التفاوضية مُشتقة بشكل أساسي من "البديل" الذي يملكه في حال فشلت العملية التفاوضية. وهكذا، كلما كان هناك بدائل ممكنة وجيدة، يكون وضعك التفاوضي أفضل، فتضع شروطك على الطاولة، وكلما انتفت البدائل التي تخدم مصلحتك، كان موقفك ضعيفاً.

 

وعلى هذا الأساس، إن التهديد الأميركي/ الإسرائيلي الضمني أو الصريح بأن فشل المفاوضات مع لبنان سيؤدي إلى حرب شاملة أو تصعيد عسكري إسرائيلي كبير، يهدف إلى دفع لبنان إى القيام بتنازلات سيادية مؤلمة، بخاصة عندما يوضع أمام خيار بأن "البديل عن التفاوض أو التوصل إلى اتفاق مقبول إسرائيلياً" هو حرب مدمرة أخرى.

 

الهدف من هذا التكتيك هو تقليص "منطقة الاتفاق الممكن" إلى أدنى حد ممكن، لصالح الطرف الإسرائيلي. باستخدام التهديد، ترتفع كلفة "عدم الاتفاق" على لبنان بشكل كبير جداً، بينما لا تتأثر كثيراً بالنسبة إلى الولايات المتحدة و "إسرائيل".

 

وعندما يقوم برّاك بتحميل لبنان مسؤولية التصعيد (بسبب عدم نزع سلاح حزب الله) يحوّل BATNA لبنان من خيار سيئ (التنازلات) إلى خيار كارثي (حرب)، والهدف إجبار لبنان على التفاوض من موقع ضعف مُطلق.  

2025/11/01

"إسرائيل" ونبوءة حنّة أرندت: هل يرتد التوحّش إلى الداخل؟

في كتابها "أصول التوتاليتارية" (The Origins of Totalitarianism) عام 1951، حدّدت حنّة أرندت جذور العنف التوتاليتاري الحديث لا في انفجار مفاجئ للشرّ، بل في التاريخ الطويل للتوسّع الإمبريالي الأوروبي.

 

وجادلت أرندت بأنّ الممارسات اللاأخلاقية والخارجة عن القانون التي طُوِّرت في المستعمرات "ارتدّت" عائدة إلى أوروبا، مما قوَّض الأسس الأخلاقية للدولة القومية ومَهَّد الأرض لنُظم الحكم التوتاليتارية في القرن العشرين، ومنها النازية والفاشية.

 

ترى أرندت أنّ المستعمرات كانت بمثابة "مختبر" تعلّمت فيه الدول المستعمرة إدارة التجمّعات السكانية عبر وسائل تخرج عن نطاق المجال السياسي التقليدي المقيَّد بالقانون. وقد أنتج ذلك عقلية ومجموعة من المؤسسات هدّدت في نهاية المطاف الأسس السياسية للدولة المركزية نفسها.

 

تشير أرندت إلى أنّ الإمبراطوريات الأوروبية حكمت المستعمرات بالحديد والنار، ومن دون منحها حقوقاً وجرّدتها من إنسانيتها وتعاملت معها كـ"حيوانات بشرية" لتبرير قتلها والتوحّش ضدّها. لذلك عندما عادت تلك الآليات والذهنيات إلى أوروبا، قوّضتها من الداخل ومورست التوتاليتارية داخل الدول المستعمرة نفسها.

 

أولاً: الآليات الأساسية لـ "الارتداد الإمبريالي"

حدّدت أرندت أربع آليات يعزّز بعضها بعضاً، تسمح بتحوّل الحكم الإمبريالي في الخارج إلى حكم توتاليتاري في الداخل.

 

أ‌- العنصرية

 

يتطلّب الغزو الإمبريالي أيديولوجيا تقسم البشرية إلى أعراق أعلى وأدنى. بمجرّد ترسيخها في المستعمرات، عادت هذه النظرة للعالم إلى أوروبا، وشكّلت أساساً لأفكار تحسين النسل، والتطهير القومي.

 

ب‌-  العنف والحكم خارج القانون

 

في المستعمرات، حكم المستعمرون عبر القوة وفرض الأمر الواقع، من دون قيود قانونية. وقد طَبَّعت هذه الممارسات، فكرة أنّ المسؤولين يمكنهم التصرّف خارج النظام القانوني باسم "الضرورة". حذّرت أرندت من أنّ هذه الممارسات كانت جنين البيروقراطية التوتاليتارية.

 

ج- إنتاج الأشخاص "الفائضين" (Superfluous People)

 

أنتجت الإمبراطورية تجمّعات سكانية مجرّدة من الحقوق: العبيد، والمُرحَّلون، والسكان الأصليين الذين بقوا خارج المواطنية. هذه الفئة من "الفائضين" باتوا مواطنين درجة ثانية، وتمّ تصويرهم كأعداء داخليين. بالنسبة لأرندت، بمجرّد أن تخلق الدولة كائنات بشرية "فائضة قانونياً"، تصبح الإبادة والتوحّش ضدّهم أمراً مقبولاً.

 

د- التوسّع كمبدأ دائم

 

حطّمت الإمبريالية حدود الدولة بتحويل الغزو إلى غاية في حدّ ذاته. تقول حنة أرندت إنه عندما تصبح السياسة توسّعاً من أجل التوسّع، لا يمكن للدولة أن تستقرّ بعد ذلك؛ بل تتطلّب تعبئة مستمرة وتصنيعاً للأعداء (خلق العدو بشكل دائم من أجل الاستمرار).

 

ثانياً- مسار الارتداد: الداخل الإسرائيلي

إذا نظرنا الى الممارسات الإسرائيلية في فلسطين، نجد أنّ الشروط أعلاه، التي حدّدتها أردنت جميعها متوفرة، وعليه إنّ تطبيق نظرية الارتداد الإمبريالي على السياق الإسرائيلي-الفلسطيني يشي بعملية "ارتداد" مستقبلية داخل "إسرائيل" نفسها. ونجد ذلك على أساس ما يلي:

 

العنصرية والتجريد من الإنسانية كسياسة رسمية

 

خلال حرب الإبادة في غزة، قام الإسرائيليون قولاً وفعلاً بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وذلك عبر الإبادة والانتهاكات وقتل المدنيين، والخطابات التي تصف الفلسطينيين بـ "الحيوانات البشرية" أو تشير إلى الصراع باعتباره معركة ضدّ "أطفال الظلام" (التعبيرات التوراتية) وهذا يتوافق تماماً مع الوظيفة الأيديولوجية للتجريد من الإنسانية في السياقات الاستعمارية: وهي جعل العنف الجماعي مقبولاً أخلاقياً وسياسياً.

 

عنف المستوطنين من اليمين المتطرّف الخارج عن السيطرة

 

إنّ تصرّفات المستوطنين من اليمين المتطرّف في الضفة الغربية هي تجسيد ملموس لحكم الاستعمار الخارج عن القانون. شهدت فترة ما بعد غزة تصعيداً موثّقاً في عنف المستوطنين، غالباً بتواطؤ وحماية قوات الأمن الإسرائيلية التي يسيطر عليها بن غفير.

 

وقد أرسى قانون يهودية الدولة عام 2018، تمييزاً مؤسساتياً وجعل العرب داخل "إسرائيل" مواطنين من الدرجة الثانية. هذا النموذج من "الخروج على القانون"، حيث مجموعة واحدة تتمتّع بالاستثناء القانوني والأخرى مجرّدة من الحقوق، يؤكّد نظرية "الارتداد" بشكل فعّال.

 

خصخصة عنف الدولة:

 

إنّ تسليح وتمكين فرق المستوطنين المتطرّفين، وتوزيع آلاف البنادق العسكرية، يطمس الخط الفاصل بين قوات الأمن الرسمية والمستوطنين ذوي الدوافع الأيديولوجية، وهي ممارسة حذّرت أرندت من أنها ستقوّض حتماً الدولة الحاكمة، خاصة عندما يرتدّ هؤلاء إلى تهديد المواطنين اليهود الذين يختلفون عنهم فكرياً وأيديولوجياً لممارسة التوحّش ضدّهم.

 

إفساد المعايير الديمقراطية الداخلية

 

إنّ التخوّف الأكبر الذي عبّرت عنه أرندت هو التحوّل داخل المجتمع الحاكم نفسه. في "إسرائيل"، تسعى قوى اليمين إلى تقويض استقلال القضاء والمجتمع المدني، وهما مؤسستان يُنظر إليهما تقليدياً على أنهما ضمانة للديمقراطية في أيّ بلد.

التوسّع كسياسة دائمة

إنّ السعي للتوسّع على حساب الدول الأخرى، وقول نتنياهو إنه في مهمّة روحية وتاريخية لتأسيس "إسرائيل الكبرى"، يشير إلى أنّ الرغبة بالتوسّع والسيطرة والاحتلال باتت غايات بحدّ ذاتها.

 

في الخلاصة، تشكّل هذه العناصر مساراً مستقبلياً لما تسمّيه أرندت "الارتداد الإمبريالي" إلى "إسرائيل" نفسها. إنّ ممارسات التوحّش لا تبقى محصورة في الخارج، بل تعود لتسمّم الحياة السياسية "للدولة المركزية" نفسها، وهكذا عندما يتسامح الإسرائيليون (أو يهلّلون) للإبادة والتوحّش الممارس في الخارج، فإنهم يهيّئون أنفسهم لقبوله في الداخل. وتحذّر حنة أرندت: بمجرّد أن تقبل دولة ما مبدأ إمكانية حكم "بعض الكائنات البشرية" خارج نطاق القانون، فإنها تستورد الاستثناء الاستعماري إلى داخلها.