تعقيب على ورقة آلان غريش في مؤتمر عقد في بيروت حول السياسة الخارجية الاوروبية والقضية الفلسطينية في 3 و4 تشرين الثاني 2010:
خلفيات السياسة الخارجية الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية ومحدداتها
ليلى نقولا - الرحباني
بداية وقبل البدء بأي نقاش حول الموقف الاوروبي تجاه القضية الفلسطينية، علينا أن ندرج حقيقة جوهرية مفادها أنه لا يمكن لأي باحث في موضوع السياسة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية أن يتغاضى أن الاوروبيين سواء كانوا مندمجين في اتحاد أو متفرقين في دول مستقلة، فهم يتحملون مسؤولية تاريخية وأخلاقية وقانونية عن نشوء القضية الفلسطينية وقيام اسرائيل بشكل مخالف لكل مبادئ القانون الدولي.
منذ وعد بلفور وبعدها السياسات التي اتبعها الانتداب في الاراضي الفلسطينية، مرورًا بقرار التقسيم واعلان دولة اسرائيل عام 1948 وصولاً الى أيامنا الراهنة و"الدعم غير المسبوق لاسرائيل" بحسب تعبير بيريز، وحيث يطالعنا كل يوم تصريحات مسؤولين أوروبيين تزايد على الاسرائيليين في الدفاع عن دولتهم بالرغم من كل الاهانات التي يوجهها لهم كل من ليبرمان وغيره من الاسرائيليين.... كل هذه الاحداث والشواهد التاريخية تجعل من اوروبا ومن خلفها المجتمع الدولي، مسؤولة عن تهجير شعب وقتله واغتصاب أرضه وتفجير منطقة الشرق الاوسط بكاملها وتعرضها لعدم الاستقرار بسبب الاحتلال.
في الورقة التي نعقّب عليها الآن، يتحدث آلان غريش عن التاريخ الاوروبي في التعامل مع القضية الفلسطينية، فيقسمه الى ثلاث مراحل، يبدأ بحرب 1967 وينتهي بمرحلة ما بعد عام 2000.
في المرحلة الاولى يتحدث عن "وثيقة شومان" عام 1971 كوثيقة اوروبية اولى تعاطت مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين ولم تذكر حق تقرير المصير ولا منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد حوالى عشر سنوات أُصدر اعلان فينيس 1980، الذي طالب بحل عادل للقضية الفلسطينية، وحقهم في اقامة دولتهم المستقلة، وقد هاجمه الاميركيون ورفضه الاسرائيليون بشدة.
ويصل الباحث الى اوسلو ليتحدث عن تهميش دور اوروبا بالكامل، ويقول ان موقف الاسرائيليين والاميركيين بتهميش اوروبا كان مفهومًا ولكن ما لم يُفهم هو الموقف الفلسطيني.
طبعت المرحلة الثانية اي ما بعد اوسلو الى عام 2000، بقرار اوروبي بالاكتفاء بالمساعدة الاقتصادية والفشل في اكتساب دور سياسي، ويعزو أسباب هذا الفشل الى أن اوروبا هي كما يقال عنها "عملاق اقتصادي وقزم سياسي".
أما المرحلة الثالثة أي ما بعد عام 2000 وهي مرحلة تتلخص بدعم اوروبي كبير لاسرائيل.
في هذه المرحلة بدأ أعضاء الاتحاد يقيمون علاقات واتفاقات ثنائية مع اسرائيل بالرغم مما كانت تفعله في الاراضي المحتلة .
يعزو الباحث اسباب هذا الانقلاب في الموقف الاوروبي الى تغيّر النظرة للقضية الفلسطينية، فبينما كان يُنظر اليها سابقًا خلال السبعينات والثمانينات الى أنها قضية بين قوة احتلال وشعب محتل، تحولت النظرة بعد 11 ايلول لتصبح فلسطين هي إحدى الجبهات في صراع الحضارات بين الغرب والاسلام.
وينهي الباحث ورقته بتوصية الى اوروبا الى انها يجب أن تعترف بأن النزاع ليس بين قوى متساوية بل بين احتلال ومحتلين. واذا كانت اوروبا تعتقد ان الحل هو قيام دولة فلسطينية مستقلة فيجب أن تضغط لذلك، لان الضغط القوي هو فقط من يغيّر سياسات اسرائيل.
------------------------------------
بدايةً أنا أوافق الباحث بأنه كان على المفاوض الفلسطيني أن يطالب بالشريك الاوروبي في مفاوضات السلام ومؤتمراته وذلك لحفظ نوع من التوازن مع الاميركي الذي لم يكن يومًا طرفًا محايدًا.. ولكن عندما نقرأ تاريخ القضية الفلسطينية ونبحث في سجلاتها وأرشيفها نجد أن الخطأ مزدوج أوروبي فلسطيني وأساسه المصلحة وعدم الثقة، وسأدرج فيما بعد مسؤولية الاوروبيين عن تهميش أنفسهم، ولكن الموضوعية تفترض أيضًا أن نذكر أن منظمة التحرير الفلسطينية قامت بسلسلة من الاخطاء والخطايا في تاريخها. ولأن موضوعنا هو العلاقات الاوروبية الفلسطينية، فيمكن أن نذكر من هذه الاخطاء مثال واحد معبر جدًا:
إعلان فينيس في حزيران 1980 الذي أتى على اثر توقيع معاهدة كامب ديفيد، والذي أقرّ بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وحقهم في تقرير مصيرهم، واشراك منظمة التحرير الفلسطينية في أي مفاوضات الخ، والذي أدى الى علاقات سيئة جدًا بين الاوروبيين والاسرائيليين.... كما اسرائيل وأميركا رفضت منظمة التحرير هذا الاعلان ايضًا، وهاجمه فاروق القدومي خلال جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في اواخر تموز 1980.
أما بالنسبة للتهميش الذي وجدت أوروبا نفسها فيه خلال مفاوضات السلام ومؤتمراته وخلال مسار القضية الفلسطينية الى الآن، فله اسباب عدة لم يتطرق اليها الباحث في ورقته، سنوجزها بما يلي:
1- اكتفاء اوروبي منذ تاريخ وثيقة شومان الى اليوم، بسياسة الاعلانات والبيانات declaratory policy فباستثناء البيانات لم نجد أن الاوروبيين قاموا بأي ضغط لاعطاء قوة للبيانات وجعلها موضع التطبيق. إن عدم قيام الاوروبيين بأي اجراءات عقابية أو ردعية أو اتخاذ تدابير بحق اسرائيل... أفقد العالم الثقة بقدرتهم على لعب دور محوري كوسيط نزيه أو كلاعب مؤثر .
2- انسحاب اوروبي طوعي وتهرب من دور سياسي مطلوب في القضية الفلسطينية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الحوار العربي الاوروبي الذي بدأ بعد العام 1973 في مؤتمر كوبنهاغن في كانون الاول 1973، بعد مشكلة النفط الشهيرة واستمر في جولات متتابعة في تونس والقاهرة. أراد العرب من هذا الحوار نتائج سياسية لكسب التأييد الاوروبي للقضية الفلسطينية، بينما كان اهتمام الاوروبيين من الحوار هو النواحي الاقتصادية والتجارية وبالاخص مسألة الطاقة.
3- بالنسبة لمؤتمر مدريد بالتحديد والتساؤل الذي لم يجد له الباحث مبررًا، يعود تهميش اوروبا في مؤتمر مدريد أيضًا الى اللحظة التاريخية التي انعقد فيها المؤتر بعد حرب الخليج الاولى، وسقوط الاتحاد السوفياتي وسيادة شعور لدى الاميركيين بانتصار كبير وقدرة على القيادة المنفردة للعالم، وخاصة في ظل تسليم اوروبي بالقيادة الاميركية والسير خلفها في حربها ضد العراق. لقد أظهرالخلاف حول كيفية التعامل مع العراق عدم وحدة الصف الاوروبي مما أضعف أي موقف يمكن أن يُتخذ في السياسة الخارجية.
4- عدم قدرة اوروبا على الفعل نتيجة القيود المؤسساتية ومراكز القوى داخل الاتحاد نفسه: من المفيد القول ان الدور الاوروبي يعاني من هوة كبيرة بين الطموحات المعلنة والدور الفعلي الذي يؤديه، وقد يفسر هذا الامر بالقيود المؤسساتية والاجرائية للسياسات الاوروبية الخارجية والامنية. كما لا يمكننا أن نغفل دور التباين بين الدول الاعضاء حول الموقف من القضية الفلسطينية وخاصة التباينات بين مراكز النفوذ الكبرى المتمثلة بـ: بريطانيا والمانيا وفرنسا.
أ- بريطانيا:
بالاساس ترفض بريطانيا الفكرة بأن يكون الاتحاد الاوروبي هو الاساس في تنسيق السياسات الخارجية ومنها القضية الفلسطينية. كما تخشى بريطانيا من السيطرة الفرنسية على السياسات الخارجية الاوروبية وخاصة اذا كانت هذه السياسات تتعارض مع السياسات الاميركية - لان بريطانيا اختارت دائما أن تكون حليف للولايات المتحدة ولو ضد السياسات الاوروبية كما حصل في العراق 2003. من هنا تحاول بريطانيا موازنة علاقتها بالاتحاد الاوروبي مع علاقتها الخاصة جدًا بالولايات المتحدة التي لها الاولوية بالنسبة للبريطانيين.
ب- ألمانيا:
علاقة المانيا الجيدة باسرائيل تبدو أولوية في سياستها الخارجية في الشرق الاوسط، لذا تحاول المانيا أن تكون السياسة الخارجية تجاه الفلسطينيين بالتحديد من خلال الاتحاد الاوروبي.
بسبب عقدتها التاريخية، تجد المانيا من واجبها تأييد قيام دولة اسرائيلية، وتتجنب اتخاذ أي خطوة أو موقف قد يبدو ضد الاسرائيليين. لذا فهي تريد ان يكون الموقف من القضية الفلسطينية من خلال مؤسسات الاتحاد الاوروبي لكي يتاح لها أخذ موقف متوازن مع العرب والابقاء على علاقاتها الجيدة مع اسرائيل بدون اهتزاز.
ج - فرنسا:
يتأرجح الموقف الفرنسي بين الاثنين، فمن جهة يسود لدى الفرنسيين شعور قوي بالهوية الاوروبية لكنهم يؤيدون بعض الاستقلالية الخاصة بهم.
بالرغم من تحبيذها لسياسة اوروبية خارجية فاعلة وموحدة الا أن الروابط التاريخية لفرنسا مع العرب تجعلها تستقل بموقفها عن الاتحاد الاوروبي في قضية الصراع العربي الاسرائيلي، وتاريخيًا ( أي منذ شارل ديغول الى فرنسوا ميتران) كان الموقف الفرنسي متعاطفًا مع القضية الفلسطينية وذلك من خلال المساهمة في صياغة القرار 242 ومن خلال محاولة توحيد الموقف الاوروبي تجاه إقامة علاقات وروابط متينة مع العرب. ظهر التبدل في الموقف الفرنسي بشكل واضح جدًا مع ساركوزي.
الاختلاف الأكثر وضوحًا بين الفرنسيين وباقي الاوروبيين هي رغبة فرنسا بموقف متميز عن الاميركيين في السياسة الخارجية، بينما رغبة الدول الاخرى بالوقوف الى جانب الولايات المتحدة واعطائها القيادة في تحديد الخيارات السياسية في السياسه الخارجية تجاه الشرق الاوسط.
5- قبول اوروبي بالتقسيم الوظيفي الذي حدده له الاميركيون : "أميركا تأخذ الدور السياسي واوروبا تؤمّن التمويل". اعتبر الاوروبيون انهم لا يريدون منافسة الدور الاميركي في الشرق الاوسط بل التكامل معه- بين التنافسية والتكاملية اختار الاوروبييون تهميش انفسهم بذريعة التكاملية. لكن الاميركيين رفضوا حتى التكامل مع الاوروبيين، واختاروا لهم دور المنفذ ، ودافع الفواتير: الفواتير المترتبة على تدمير إسرائيل للمنشآت الفلسطينية، ودفع ثمن التنازلات الفلسطينية للفلسطينيين.
هذا في ما خص أسباب تهميش الدور الاوروبي في القضية الفلسطينية، أما في منطلقات تلك السياسة ومحدداتها ، فيجب لنا أن نلفت أن هناك الكثير من سوء الفهم الاوروبي للقضية أو على الاقل إن المنطلقات التي تنطلق منها السياسة الخارجية الاوروبية في المنطقة هي منطلقات ملتبسة ومشوّهة ومتأثرة بقراءة خاطئة للتاريخ والدين، وفي هذا ندرج بعض الملاحظات:
أولاً: ان المعركة في فلسطين ليست صدامًا حضاريًا ثقافيًا، ولا حربًا أهلية، ولا حربًا دينية... هي ببساطة، صراع بين الحق والباطل، الباطل الذي يتخذ من الدعم الاميركي والاوروبي قوة إضافية لبطشه وضرب القوانين والاعراف الدولية عرض الحائط.
ثانيًا: لا يمكن للعقل الاوروبي "المسيحي" فهم القضية الفلسطينية بجوهرها الحقيقي والتفاعل معها كما يجب، الا من خلال الاقتداء بمسيحيي المشرق بشكل عام والمسيحيين العرب بشكل خاص، الذين طوّروا قراءة العهد القديم وتحرّروا من القراءة الحرفية لبعض النصوص التوراتية حول أرض الميعاد، ففهموها بمعناها الرمزي والروحي وليس الحرفي. وهنا لا بدَّ لنا من الاشارة الى العدد الكبير من اليهود، علمانيين أو رجال دين، الذين يعادون ممارسات دولة إسرائيل ويدينونها بشدة، بلْ أنَّ بعض الفئات المتدينة من الحاخامات يرون عدم شرعية وجود دولة يهودية من المنظور اللاهوتي اليهودي، وبالتالي يعتبرون انشاء اسرائيل بدعة خطيرة في حياة اليهود ومخالفة فظيعة للمبادئ الأخلاقية المسالِمة التي يتمسّكون بها.
ثالثًا: يعيش المجتمع الاوروبي منذ فترة، عصر الانقلاب الثقافي، ولقد برز مفهوم جديد لوصف الحضارة الغربية وجذورها على أنَّها "يهودية مسيحية" وليس كما كانت الحال حتى السبعينيات من القرن الماضي أي "يونانية رومانية".
هذا الانقلاب جعل اسرائيل تحتل مكانة رفيعة في الوجدان الغربي كخط دفاع أساسي ومتقدِّم للحضارة الغربية مقابل الحضارة العربية الإسلامية التي أصبحت تهدِّد، في نظر القيادات الغربية، سلامة العالم المسيحي اليهودي ونظام قيمه ومؤسساته الديمقراطية، وهذا ما يجعلهم يبررون عدوانها المستمر وهمجيتها.
رابعًا: إنَّ الخلفية التاريخية لأوروبا، تتميَّز بقرون من الاضطهاد ضد اليهود تطورت بشكل متصاعد وأدَّت إلى محاولة إبادة اليهود الأوروبيين من قبل النازية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن النظرة التبسيطية للصراع اليوم في فلسطين وتحويله عن جوهره الاساسي واسباغ الصبغة الدينية عليه لن يحلّه، ولن تستنقذ تاريخًا اوروبيًا مليئًا بالمآسي وتوبيخ الضمير. لذا على الاوروبيين أن يعوا بأن لا علاقة للمسلمين عمومًا والعرب خصوصًا، بأسباب اضطهاد اليهود في أوروبا أكانت دينية أو عنصرية الطابع، وإفهامهم بأنَّ العرب لم يكونوا يومًا طرفاً في مأساة اضطهاد اليهود وفي المحرقة، لذا لا يجوز للعالم أن يحمّلنا كعرب، مسلمين ومسيحيين، وزر التاريخ الأوروبي والأميركي ومآسيه وتوبيخ ضميره.
خامسًا: يسير الاوروبيون بدون إدراك لخطورتها، في محاولات تصفية القضية الفلسطينية من خلال إهدار حقوق الفلسطينيين المشروعة وأهمها حق العودة، بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في مراكز تواجدهم. من منطلق فهمنا للأوضاع ولمراكز القوى في المنطقة، نؤكد إن هذه المخططات لن تمر، ولن تؤدي الا الى عدم استقرار ونزاعات وحروب مستمرة في منطقة الشرق الاوسط، والتي قد تمتد لتحرق الحيز الجغرافي الملاصق بأكمله.
سادسًا: يؤكد القانون الطبيعي والقانون الدولي الذي نشأ أوروبيًا وامتد الى العالم، أن المقاومة حق وواجب مقدس. لذا بات على الاوروبيين اليوم في سياساتهم الخارجية، الانسجام مع تاريخهم وقيمهم وثقافتهم وقوانينهم والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه ووحقه المشروع في المقاومة بجميع الوسائل المتاحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق