2011/03/31

هل يمكن اسقاط النظام الطائفي في لبنان؟


بلا شك لا يتصور حتى أكثر المتفائلين في قيادة التظاهرات المطالبة باسقاط النظام الطائفي في لبنان بأن السقوط سيكون سريعًا، وأن مجرد نزولهم الى الشارع سيجعل من تمرسوّا في قيادة هذا النظام وإدارة اللعبة الطائفي في لبنان يتخلون عن عروشهم لدولة مدنية.

تاريخيًا، شكّل الكيان اللبناني ساحة صراع تتنافس فيها الدول الكبرى المسيطرة على المنطقة وتتبادل الرسائل عبرها، وقد أدخلت الطوائف الدينية اللبنانية ومذاهبها المختلفة في شبكة نفوذ تلك الدول مبكرًا منذ عهد السلطنة العثمانية وما بعدها. وقد تدخلت الدول الكبرى في شؤون الامبراطورية العثمانية بذريعة حماية الاقليات الدينية فروسيا القيصرية مثلاً حمت الطائفة الأرثوذكسية، وفرنسا حمت الطائفة المارونية، والإمبراطورية النمساوية حمت الروم الكاثوليك، والإنكليز حموا الدروز، أما السلطنة العثمانية فحمت الطائفة السنّية.

ومنذ تلك الفترة وحتى يومنا هذا انتشرت ثقافة سياسية زبائنية عُرفت بـ "ثقافة القناصل" الذين استخدموا "الاعيان والوجهاء" لتكريس نفوذهم، والتدخل في الشؤون اللبنانية، وتحريض الطوائف على بعضها البعض، وهو ما ينبئ بأن ثقافة النميمة والاستعانة بالخارج ضد الفرقاء الداخليين الذي أكدته وثائق ويكيليكس هو ثقافة موروثة، تدخل في جينات تلك الطبقة السياسية التي تتوارث النظام اللبناني جيلاً بعد جيل.

وهكذا، ومع تأسيس الكيان واعلان الدولة، تنازلت الدولة عن صلاحياتها للطوائف، أو بالاحرى إن الطوائف التي سبق وجودها وجود الدولة أسست دولة هشّة ومحدودة القوة وتركت لنفسها الكثير من الاستقلالية والصلاحيات المفترض بالدولة الاضطلاع بها. وهكذا قامت علاقة عكسية بين سيادة الدولة وقوة الطوائف في لبنان، فكلما زادت قوة الطوائف تقلصت سيادة الدولة والعكس بالعكس.

وهكذا حوّل الصراع الدولي على أرض لبنان، والذي اتخذ شعارات "غلبة الطوائف لبعضها" او خوفها من بعضها البعض"، حوّل الدولة الى مجرّد حَكَم في صراع الطوائف فيما بينها، وهو في الحقيقة والواقع "صراع الدول الحامية لتلك الطوائف". واتخذت الطوائف من خوفها ذريعة لتكريس نظام وصاية على الدولة ومواطنيها، وصاية كرستها من خلال نظام المحاصصة الطائفية الذي بدأ مؤقتًا عام 1943 وتحول الى عرف دائم، كرّسه الدستور بعد التعديلات التي أقرّت عام 1990 بناءً على اتفاق الطائف.

جعل نظام المحاصصة هذا، الدولة مساحة لتحاصص الطوائف المختزلة بزعمائها، وجعل التناقضات والصراعات بينهم تأخذ طابعًا طائفيًا ومذهبيًا مقيتًا، فتعيق عمل السلطة، وتعرقل بناء دولة القانون والمؤسسات، وتفتح المجال لاستخدام الدين و"الخوف على الوجود والمصير" غطاءً للولاءات غير الوطنية، والاستقواء بالخارج لقلب موازين القوى الداخلية لصالحها، ولحماية وتفشي الفساد والفاسدين وانتشار الزبائنية، وانتاج فتن وحروب أهلية متكررة، وجعل لبنان ساحة مفتوحة لصراع تتداخل فيه العوامل الخارجية مع الداخلية، فتضعف سيادة الدولة الخارجية والداخلية المنقوصة أساسًا.

وهكذا تحولت الطائفية نظام حياة الشعب اللبناني بأكمله، تخترق بناه الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وتدخل في تركيبة مؤسساته، وتخترق أحزابه واعلامه ومدارسه وجامعاته، وتدخل في نسيج تكوين الفرد والمجتمع كما في نسيج الدولة.

واليوم، وتزامنًا مع شعار التغيير وإسقاط الأنظمة المنتشر في العالم العربي، طرحت بعض القوى اللبنانية شعار"اسقاط النظام الطائفي" ، داعية الشباب اللبناني الى اللقاء في الساحات للتعبير عن سخطهم من الحالة التي أوصلهم اليها "نظام المحاصصة الطائفية في لبنان"، ممنين النفس بأن تشكّل التظاهرات وعيًا اجتماعيًا وخلق بيئة مناسبة للتغيير.

بشكل عام، هناك قوى عدة تتضرر من سقوط نظام المحاصصة الطائفية في لبنان ، ولا بد من تحديدها لمعرفة ما الذي يمكن أن يواجهه هذا الشباب الثائر:

- الاقطاع السياسي وزعماء الحروب الطائفية الذين تحوّلوا الى سياسيين، وهؤلاء تمدهم الحالة الطوائفية في لبنان بذخر استراتيجي كبير لممارسة نفوذ على الطوائف والادعاء التكلم باسمها للسيطرة على الدولة ومرافقها، وتعبئة المناصرين وتجييش الناخبين باسم الدفاع عن الطائفة والدين وحمايتهم من "الآخر".

- نظام التبعية والعمالة، الذي يتفشى في معظم الطوائف اللبنانية بدون استثناء، والذي يستخدم الحالة الطائفية والمذهبية مبررًا لعمالته، وفي كثير من الاحيان، يجد هؤلاء في المتكلمين باسم الطوائف من الفئة الاولى حاميًا ومنجيًا من العقاب.

- نظام الفساد المستشري في جميع هيكليات الدولة ومرافقها، وفي القطاعين العام والخاص. هؤلاء يجدون في الحالة الطوائفية ملاذًا وداعمًا، خاصة عندما يصبح المساس بهم، مساسًا بالطائفة بأكملها.

- طبقة أصحاب الصفقات من رؤوس الاموال، التي تحالفت مع الفئات السابقة وسيطرت على الدولة ومؤسساتها، خاصة بعد انتهاء الحرب الاهلية في التسعينات. تستخدم هذه الفئة التعابير الطائفية حجابًا للتستر على سرقتها للمال العام من خلال السياسات المالية التي أفقرت الشعب وجوعته، ورهنته ورهنت مصيره لأجيال مقبلة عدة.

من هنا، فان الداعين لاسقاط النظام الطائفي في لبنان، عليهم أن ينتقلوا الى استراتيجية أشمل من المسيرات الجوالة وشعاراتها، استراتيجية تقوم على تقويض أسس النظام التي اوردناها أعلاه تمهيدًا لاسقاطه. استراتيجية تقوم على البدء بدك أسس الفساد والافساد من خلال كشفهم وتعريتهم، والمطالبة بمحاكمتهم، ومحاكمة جميع العملاء، والمطالبة بإنهاء جميع سياسات التمييز المجحفة، وانهاء ثقافة العفو العام والخاص وطمس الحقائق وتعمية الرأي العام.

وهكذا، لا يمكن لنظام المحاصصة الطائفية ان يسقط، بدون اقتناع تامٍ بضرورة العيش معًا كمواطنين تامّين، نستمد حقوقنا من مواطنيتنا وليس من كوننا رعايا هذه الطائفة أو تلك. وذلك من خلال العمل على ترسيخ فكرة الانتماء الوطني: اي تحرير الوطن اللبناني من مشنقة الطائفية والمذهبية الملتفة على عنقه، وذلك من خلال اعادة الاعتبار الى المفهوم العالمي الذي يحدد مفهوم الوطن بوجود شعب مكوّن من أفراد قاموا بعقد اجتماعي فيما بينهم وارتضوا العيش معًا ضمن اقليم معين، ما يسمح بإحلال الانتماء الوطني مكان الانتماء الطائفي، مع الابقاء على حرية العقيدة والايمان الديني والتدين. ويعني هذا في ما يعنيه اقتناع تام بأن لا مفر لنا من العيش معًا، كما نحن بجميع تلاويننا الدينية وأن لا قدرة لطائفة ما مهما كبرت أو علا شأنها بأن تلغي الآخرين ليتنعم النافذون فيها بمغانم السلطة وحدهم، حاجبين لقمة العيش عن ابناء دينهم ومذهبهم قبل أن يحجبوه عن الآخرين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق