يحاول المستقبل وحلفاؤه بشتى الوسائل العودة إلى الحياة السياسية، بعدما تلقوا ضربة كبيرة بإخراجهم من السلطة، وصدمة أكبر بتشكيل الحكومة، وهم الذين كانوا يعوّلون على استدامة أمد الفراغ لإحراج الأكثرية الجديدة، وللظهور بمظهر الحريص على استقرار البلاد وتطورها.
وفي قراءة لمسار المواجهة الحريرية مع الحكومة الجديدة، نلاحظ أن المستقبل وحلفاءه اختاروا المواجهة على أكثر من صعيد أمني وسياسي وإعلامي وخارجي، وهنا تبرز ملامح الخطة الحريرية للمواجهة المقبلة على الشكل التالي:
•- صراخ وضجيج وتهويل يملأ الساحة السياسية اللبنانية وإعلامها وشاشاتها، والحديث الدائم عن "الكيدية والثأر"، وذلك في محاولة لدفع الحكومة اللبنانية إلى عدم محاسبة المرتكبين والمخالفين وسارقي أموال الشعب ومن أساءوا استخدام السلطة، تحديداً في القطاعات المالية والأمنية والاتصالات والقضاء وغيرها، وستشهد الساحة اللبنانية مزيداً من الصراخ والضجيج والتهويل، من خلال اعتصامات وتحركات شعبية، في محاولة منهم لطمس معالم حكمهم للبنان خلال سنوات من الاستئثار والتهميش وسرقة المال العام، والتعدي على الأملاك العامة وحقوق اللبنانيين، وحكم لبنان من غير موازنة لمدة ست سنوات، وإبقاء المؤسسات الرديفة التابعة للحريري، واستنزاف القطاع العام لخصخصته وتحويل اللبنانيين مستخدمين وزبائن إلى التعامل مع شركات الحريري التجارية.
•- تهويل دائم على اللبنانيين، بتدخل خارجي وضغوطات سياسية واقتصادية غربية على لبنان، وذلك بعدما ملأ الحريريون وأعوانهم الخارجيون العالم صراخاً وضجيجاً حول ما سمّوه "مشاركة حزب الله بالحكومة"، وكأن حكوماتهم المتعاقبة منذ التحالف الرباعي في العام 2005 ولغاية الآن لم يكن فيها مشاركة لحزب الله! ولكي يكون لوقع ضجيجهم الخارجي صدى، فهم يضيفون الآن أن الحكومة هي حكومة سورية، وذلك لملاقاة الغرب الراغب في الضغط على سورية وتطويعها، وهكذا يعيش جمهور المستقبل وحلفاؤه على آمال استجلاب ضغوط خارجية على الحكومة اللبنانية، تفقدها قدرتها على العمل، وتغرق اللبنانيين بمصاعب سياسية واقتصادية تؤدي إلى انهيار الحكومة الجديدة، فتعود الحريرية إلى الحكم على حصان الضغط الخارجي.
•- اللعب على الوتر الأمني، ودفع اللبنانيين إلى الفتنة المذهبية، وهو ما برزت بشائره في طرابلس، ذلك أن الفريق الذي استأثر بالحكم لمدة طويلة لم يستطع أن يرى نفسه خارجها ويخسر بالتالي "مزاريب" الذهب التي كانت تدر عليه الأموال الطائلة، ولا يأمن انكشاف الغطاء السياسي عنه، ما يؤدي حتماً إلى كشف المزيد من قضايا الفساد والإفساد التي أمعن الحريريون في استخدامها لمدة طويلة من الزمن، وفي هذا المجال يعوّل المستقبليون على صدور القرار الظني من المحكمة، ليستخدموه أداة في تشنيج البلد طائفياً ومذهبياً، والتهويل على الحكومة اللبنانية بضغوط خارجية، بذريعة عدم التعاون، والتحضير لانفلات أمني في البلاد، يغرقها في أتون "حروب أهلية موضعية"، يترافق مع "هيجان" رجال دين وسياسيين.
•- يعيش بعض جمهور المستقبل وحلفائه اليوم على وقع همسات من زعمائهم، عكست نفسها في بعض وسائل إعلام هذا الفريق؛ عن حرب إسرائيلية قادمة على لبنان وسورية في أيلول المقبل، ويتحدثون عن مؤشر هام هو المناورة الإسرائيلية (نقطة تحول 5)، لا بل إن البعض منهم يؤكد في مجالسه أن الجيش الإسرائيلي أصبح جاهزاً لشن حرب على لبنان، وأن هذه المواجهة لن تكون على غرار حرب تموز 2006، بل أعنف وأشرس، وتراود البعض منهم أحلام "قضاء إسرائيل على حزب الله"، وإيصال الحريري وحلفائه مجددًا إلى الحكم، في مشهد يشبه وصول بشير الجميل إلى الحكم عام 1982، لكن ما لا يدركه جمهور الفريق المستقبلي، خصوصاً المسيحي منه، أن إسرائيل ليست بوارد الحرب على لبنان، ولن تقدم عليها، ببساطة لأنها لم تتأكد من انتصارها فيها.
علماً أن المناورات الإسرائيلية هي تدبير سنوي منذ هزيمة الكيان الإسرائيلي في حرب لبنان 2006، وتأتي بناء على توصيات لجنة (فينوغراد)، وهدفها رفع مستوى المناعة الاجتماعية الداخلية، والتي تشير وثائق مؤتمر (هرتسيليا) إلى أنها وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ تأسيس الكيان، بالإضافة إلى نشر شعور لدى الجمهور الإسرائيلي بأن جيشه قادر على الدفاع عنه بعدما أظهرت تقارير عدة أن الإسرائيلي لا يشعر بالأمن إلا وهو يتجول متأبطاً جواز سفره، الذي يعتبره ملجأه الأهم. ويمكن أن يضاف الى قائمة الاهداف الاسرائيلية هدف ثالث وهو حدوث انهيار في معنويات العدو، باظهار اسرائيل وقد استعادة قوتها الردعية ومقبلة على حرب ستسحق فيها خصومها.
في النهاية، لا يمكن لأي مراقب اليوم إلا أن يرى أن الحملات السياسية والإعلامية التي يقوم بها الحريريون، وحتى التهويل باعتصامات واهتزازات أمنية وحرب إسرائيلية مقبلة لن تؤدي إلى أي شيء، ولن ينفع حتى التهويل الدائم بـ"الشهيد" وقتلة "الشهيد" ودم "الشهيد" التي استهلكها الحريريون، وعصروا خلالها "جريمة العصر" للوصول إلى السلطة والاستئثار بها لمدة ست سنوات. والفتنة في لبنان لن تقع بسبب عدم قدرة مشعليها على إطفائها، وهي خط احمر في لبنان، ولا عودة الى الماضي وشعار "لنا أو للنار"، وأول من ستحرق الفتنة هو مضرمها قبل أن تمتد إلى النسيج اللبناني. ولا حرب إسرائيلية مقبلة، ولا الاستعانة بالغرب ستفيد، لأن للغرب مصالحه وحساباته الإقليمية التي قد لا تتناسب مع حسابات الحريرية السياسية، ولا حتى الضغط العربي سيفيد، لأن من تبقى من "محور الاعتدال" يعيش هاجس سقوطه، والمملكة العربية السعودية "تعيش الأيام الأكثر صعوبة في تاريخها"، بحسب تقرير أميركي حديث.
لقد خرج لبنان من عصر الحريرية السياسية الاستئثارية ولن يعود، وما تمّ تسويقه خلال التسعينات حول "انهيار الدولة" برحيل شخص، لم يعد صالحاً لهذا الزمان، وما على الحكومة الجديدة إلا أن تتفادى الوقوع في المطبات والأفخاخ المنصوبة لها، وإخراج لبنان من مصاف الدول الفاشلة، والسير نحو دولة عصرية، تسودها المساءلة والشفافية والحكم والمصالح، والاهتمام بحاجات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية الملحة.
* استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق