2012/01/19

هل ينأى لبنان بنفسه في التمديد للمحكمة؟

لمناسبة زيارة الأمين العام للأمم المتحدة للبنان، أعيد طرح موضوع ما سُمي اصطلاحاً بـ"بروتوكول" المحكمة الدولية، وهو في الواقع القانوني "معاهدة ثنائية دولية" بين الأمم المتحدة ولبنان الممثَّل بحكومة السنيورة الفاقدة للشرعية والميثاقية آنذاك، والتي لم يستطع المجتمع الدولي ومن يتعاون معه في لبنان من تمريرها بالأطر الدستورية اللبنانية المعتمدة لتوقيع الاتفاقيات الدولية، مما اضطر مجلس الأمن لاصدار القرار 1757/2007، الذي أنشأ المحكمة تحت الفصل السابع.
وبغض النظر عن الموقف اللبناني من القضية، كان واضحاً من كلام بان كي مون عندما قال بصيغة "يجب"، أن القرار متخذ بتمديد الاتفاقية من دون العودة إلى الموقف اللبناني الرسمي والدستوري والشعبي؛ تماماً كما حصل خلال عام 2007، عندما أنشئت المحكمة وتمّ فرضها بقرار من مجلس الأمن، من دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف اللبناني وملاحظات رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك اميل لحود.
إن المطلع على تاريخ المحاكم الدولية والسوابق التي ترافقها، يدرك أن المحاكم الدولية ومسيرتها القضائية تخرج عملياً وواقعياً - منذ لحظة بدايتها - بشكل كامل من أيدي السلطات المحلية والمجتمعات التي تقول إنها تخدمها، حتى ولو كانت الدولة المعنية هي التي طالبت بإنشائها في الأساس، ولنا في هذا المجال مثال واضح، كتجارب المحاكم الجنائية الدولية المختلطة كسيراليون وتيمور الشرقية وكمبوديا وغيرها، كما يمكن أن نرتكز إلى مثال فاضح هو قضية أوغندا أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي أُنشئت في الأساس كمحكمة "مكملة" للاختصاص القضائي المحلي، وليس بديلاً عنه.
في قضية أوغندا، على سبيل المثال، غدت ممارسة المحكمة الجنائية الدولية "المسيسة" عائقاً أمام تحقيق مبادرات تحقيق السلام المنشود في ذلك البلد، فنتيجة لمفاوضات السلام، صدر قانون بالعفو عن الثوار، إلا أن المحكمة الدولية أصدرت قراراتها الاتهامية في ذروة مباحثات السلام بين الاثنين، والتي انهارت مباشرة بعد صدور قرار المحكمة، وقد أُجريت استطلاعات الرأي بين الضحايا، وجاءت نتيجتها أن الشعب الأوغندي بغالبيته العظمى يريد منح العفو للمقاتلين، لإحلال السلام وإعادة دمجهم في المجتمع، وظهرت اعتراضات من جميع الفعاليات الروحية والقبلية والرسمية في أوغندا، والذين قابلوا مدعي عام المحكمة وطالبوا بسحب اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وتحويل القضايا إلى المحاكم الداخلية، لكن المحكمة رفضت  بشكل كامل التنازل عن القضية.
أما سبب تشبث المحكمة بالقضية، بالرغم من تقويضها عملية السلام في أوغندا، فيعود إلى رغبة أميركية بذلك، وقد أرسل الأميركيون مؤخراً فرقة من القوات الخاصة للمساعدة في الاعتقالات، وجلب المتهمين للمحكمة.
وكما في أوغندا كذلك في لبنان، فعندما يأتي بان كي مون إلى لبنان، ويؤكد على وجوب التمديد للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ويُظهر  البعض في لبنان وخارجه إصراراً على السير بالاتفاقية كما هي من دون تعديل، ولو كلف الأمر لبنان استقراره الداخلي، وبالرغم من فقدان الثقة بمحكمة موصومة بحماية شهود الزور ويشوبها التسييس.. عندما يحصل كل هذا، عليك أن تفتس عن المصلحة الأميركية، وهي بالطبع متوافرة، إذ إن ما عجزت عنه "إسرائيل" بالحرب في 2006، يحلم مهندسو المحكمة أن يحققوه بالعدالة الدولية.
واقعياً، ومن خلال استطلاع التجارب الدولية السابقة، إن الأمل الذي يحدو البعض بتصحيح مسار العدالة الدولية لإحقاق الحق وتأمين الاستقرار والسلام في المجتمع اللبناني، من خلال تعديل الاتفاقية الموقعة بين الجمهورية اللبنانية والأمم المتحدة،  والتي تنتهي صلاحيتها في اليوم الأول من آذار 2012 المقبل، قد يبدو مجرد سراب، لكن هذا لا يعني عدم المحاولة، أو "النأي بالنفس" ودفن الرؤوس بالرمال؛ كما الاستراتيجيات المعتمدة من قبل رئيس الحكومة في كل القضايا المصيرية لغاية الآن.
وقد يرتكز دعاة "النأي بالنفس" إلى مبدأ أساسي في القانون الدولي يتيح لمجلس الأمن، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تجاوز سيادة الدولة اللبنانية، كما حصل خلال إنشاء المحكمة، الأمر الذي يمكن أن يتكرر اليوم في التمديد، لكننا نلفت عناية الحكومة اللبنانية إلى أن مجلس الأمن استند في توجّهه لإنشاء المحكمة تلك إلى عريضة نيابية وقّعتها الأغلبية النيابية وقتها، أي المستقبل وحلفاؤه، بالإضافة إلى أن نص قرار مجلس الأمن استند بشكل رئيسي وواضح إلى الرسالة التي وجهها فؤاد السنيورة؛ رئيس وزراء لبنان آنذاك، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ما يعني أن الرئيس ميقاتي - رئيس وزراء لبنان اليوم - يستطيع أن يوجه رسالة مماثلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، يبلغه فيها عن حاجة لبنان إلى إدخال تعديلات جوهرية إلى الاتفاقية، تحفظ السيادة اللبنانية بشكل رئيسي، وتصحح مسار المحكمة الذي شابه الكثير من التسييس والتدخلات وتحريف الحقائق.. فهل يقوم بذلك ويبدل سياسة النأي بالنفس، أم يهدد بالاستقالة لإحراج حلفائه في الحكومة، كما فعل خلال قضية تمويل المحكمة؟ لن ننتظر كثيراً، فالجواب برسم الشهر المقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق