2012/07/12

روسيا والغرب ...حرب باردة مستمرة

لم يقل بوتين كل الحقيقة عندما اتهم الغرب في تصريح له بالسعي للمحافظة على تأثيره المعتاد من خلال ما سمّّاه تصدير "ديمقراطية الصواريخ والقنابل"، فهو ومن خلال تجربة بلاده الخاصة يدرك أن الغرب لم ينفك يستعمل أساليب أخرى - تسمى في علم العلاقات الدولية "الحروب القذرة" - لإخضاع الدول، والتأثير عليها أو إضعافها في الساحة الدولية.
وبلا شك، لم يوفر الغرب أياً من تلك الوسائل في صراعه الطويل مع الروس، والذي بدأ على إثر الحرب العالمية الثانية، واستمر في حرب باردة طويلة سادها الاحتواء المتبادل، وسباق التسلح، ومحاولات بسط النفوذ عالمياً. وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومساهمة الغرب في تنصيب بوريس يلتسين، وهو أسوأ رئيس يمكن أن يحكم دولة في العالم، استمر الغرب في حربه على روسيا داخلياً وخارجياً، والتي لم تنته لغاية الآن، بل ازدادت حدة بعد وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم.
ويمكن إبراز مؤشرات الحرب الغربية على روسيا بما يلي:
-       الحروب والثورات ومطالبات الانفصال: وهو ما شهدته دول الاتحاد السوفياتي السابق في دورتين تاريختين منفصلتين، فعلى أثر انهيار الاتحاد السوفياتي، شهدت دول أوروبا الشرقية مطالبات بالانفصال أدّت إلى حروب عرقية وحملات تطهير أخرجت الموالين للاتحاد السوفياتي من الحكم، وقسّمت الدول إلى دويلات طائفية متناحرة ضعيفة وهشّة، يتحكم بها حلف الناتو اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، من خلال السيطرة المباشرة، بالإضافة إلى الأمم المتحدة والمحاكم الدولية التي ابتدعها.
ثم في مرحلة ثانية، وفي خضم الحرب العالمية على "الإرهاب"، وبعد وصول بوتين إلى الحكم وخشية الغرب من عودة روسيا إلى الساحة الدولية، قام الغرب بالتحريض على قيام ثورات ملونة في الحديقة الخلفية لموسكو، والتي أدّت إلى إنهاء سيطرة الحكام الموالين لموسكو في كل من أوكرانيا وجورجيا وغيرها، بالإضافة إلى تحريض الشيشان على الانفصال واستخدام "الإرهاب"، ما جعل روسيا تدخل في حربين أهليتين في الشيشان.
-       داخلياً: ارتفاع معدل الجريمة، ومشاركة ضباط بتأسيس منظمات مافيا قامت بالسطو على المنازل والبنوك، وترويج المخدرات وتهريب الاستثمارات وغيرها، واستمر الحال على ما هو عليه إلى حين وصول بوتين إلى الحكم، وقيامه بحملة أمنية واسعة وهيكلة شاملة، من خلال تسريح وسجن عشرة آلاف ضابط من الشرطة، وزيادة الرواتب بما يوازي ثلاثة أضعاف الرواتب السابقة، وتفعيل دور المخابرات والجيش.
-       المخدرات: بعد قيام روسيا الاتحادية، وصل عدد المدمنين والمتعاطين إلى 15 مليون شخص عام 1997، وارتبط تهريب المخدرات وصناعتها بالمافيا الروسية التي كانت تعمل مع المافيا الإيطالية والأميركية، وبلغ حجم التعاملات في سوق تجارة المخدرات حوالى 18 مليار دولار في السنة، رغم تدني مستوى المعيشة لغالبية السكان. أما بعد سيطرة الناتو على أفغانستان، فتشير التقارير الروسية إلى تورط حلف الناتو بإغراق المدراس بالمخدرات المجانية للطلاب الروس، بهدف تهديم المجتمع من الداخل، وهو ما قام بوتين بمحاربته بقوة، ما أدى إلى تقلّص عدد المدمنين إلى النصف.
-       الحرب الاقتصادية التي ما زالت مستمرة لغاية الآن، والتي ازدادت شراسة بعد حصول التطورات في العالم العربي، ووقوف روسيا سداً منيعاً في وجه التفرد الأميركي بحكم العالم، وقد تجلت في العام الماضي بضخ الغرب الأموال للمظاهرات المناوئة لبوتين بالعملات الصعبة، والضغط المالي على الروبل، ما أدى إلى هبوط سعره، بالإضافة إلى تخفيض سعر برميل النفط عالمياً، وهي سياسة تهدف بالدرجة الأولى إلى الضغط على روسيا، وإحراجها لتغيير موقفها من القضية السورية.
-       هجرة العقول: بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، قامت "إسرائيل" والمنظمات الصهيونية بدور كبير في إفراغ روسيا من طاقاتها البشرية الفكرية والعلمية، فهاجر عدد كبير من العقول والخبراء والكوادر المتخصصة في مجالات البحث العلمي إلى الخارج، ومعظمهم إلى ألمانيا و"إسرائيل"، وفقدت روسيا بعض التخصصات العلمية، فراحت تستوردها فيما بعد بالصفقات وبالعمليات المخابراتية، كما حدث مع العلماء الذين سافروا إلى "إسرائيل".
وهكذا، ورث بوتين إرثاً ثقيلاً وهيكلاً مهترئاً بالفساد، استطاع بقوة شخصيته وحزمه، وبالارتكاز على عوامل القوة في حكمه، وهي الجيش والمخابرات والكنيسة، القضاء على المافيا الروسية من خلال حرب أمنية أتقنها، بالإضافة إلى إعادة الثقة بالاقتصاد الروسي، وإقامة التحالفات الدولية الثابتة، وهو ما جعله يصرّ على القيام بزيارة للصين، في أول زيارة خارجية له بعد تنصيبه رئيساً لروسيا هذا العام، ناهيك عن رفع المستوى الاجتماعي للمواطنين، وإعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها؛ بالإنفاق على المرافق الحياتية، كالصحة والتعليم، ودفع الرواتب في تاريخها، بعد أن كان موظفو القطاع العام يعيشون القلق الدائم بسبب تأخر الدولة في دفع رواتبهم.
في المحصلة، يبدو أنه بالرغم من فترات التعاون بين الروس والغرب، والتي سادت خلال العقدين المنصرمين، ما تزال عوامل الشك وسباق النفوذ وآليات الحرب الباردة تسيطر على العلاقات الروسية الغربية، ولا يمكن أن تأمن روسيا يوماً للغرب وهو يحاول أن يهزمها بشتى الوسائل الأمنية والاقتصادية والسياسية، ويحاول احتواءها عسكرياً، من خلال إقامة الدرع الصاروخي، وإحراجها في الساحة الدولية.
لكل هذه الأسباب، لن يسلّم الروس للغرب في الشرق الأوسط، وقد خسروا الكثير في شمال إفريقيا، كما أن سقوط سورية يعني سقوط القلعة الأخيرة في الدفاعات الروسية، والتي ستؤدي إلى نقل الحرب إلى الداخل الروسي مجدداً، وهو ما لن يسمح به بوتين مطلقاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق