2012/07/19

إسقاط الجيش: المسمار الأخير في نعش الوطن

منذ أن بدأت المعارك في سوريا، وتحولت المعارضة الى عسكرة وتسليح وارهاب متنقل، سعى بعض اللبنانيين مجاراة ما يحصل في دمشق من خلال السيطرة الميدانية والعسكرية والسياسة على منطقة الشمال بوسائل عدة. وبلا شكّ، وبما أن الجيش اللبناني بقي المؤسسة الوحيدة الثابتة على وطنيتها، وعلى عقيدتها القتالية بالرغم من كل محاولات التضييق عليها التي مارسها تيار المستقبل وحكوماته المتعاقبة منذ رفيق الحريري، بات هذا الجيش عرضة للاستهداف، فتمّ التعدي عليه، بشكل لم يسبق له مثيل منذ انتهاء الحرب وحلّ الميليشيات في التسعينات من القرن الماضي. ويمكن إدراج أسباب ذلك الغلو في استهداف الجيش والتجني عليه بما يلي:
1-  سكوت الطبقة السياسية عن هذا الاستهداف، ونأي الحكومة ورئيسها ورئاسة الجمهورية عن التعدي والتطاول على الجيش وتكفيره، واعتباره عدوًا يثير وجوده حساسية مواطني عكار. نأت الطبقة السياسية بنفسها، ولم يطالب أحد بتحويل المرتكبين الى القضاء وهم يخالفون القانون من خلال المسّ بالسلم الأهلي واطلاق الخطابات التحريضة المذهبية، والأنكى محاولة السلطة السياسية ضرب معنويات الجيش وهيبته، بتحويل ضباطه وعسكرييه الى المحاكمة وذلك نزولاً عند رغبة بعض قطاع الطرق.
2- سلوك قيادة الجيش "الاحتوائي" والذي استغلّه المعتدين على الجيش لزيادة افترائهم على العسكريين والضباط بعد حادثة الكويخات.  فقد سارعت القيادة العسكرية الى تقديم اعتذار عن مقتل الشيخين في عكار، بالرغم من أن الوقائع أثبتت ان السيارة التي كانت تقلّ الشيخين هي التي بادرت باطلاق الرصاص على الحاجز. ثم كان القرار بسحب القوات العسكرية من عكار لتجنب الاحتكاك، وقد فهم مقوّضي الاستقرار في لبنان أن هذا بمثابة ضوء أخضر لهم للسيطرة على الشمال ولقطع طريق صيدا، وأن الجيش يترك المواطنين لمصيرهم ليتحكم بهم قطاع طرق وميليشيات تتستر بالدين.
3- تقاعس مجلس الوزراء عن دعم الجيش سياسيًا، واتخاذ القرار المناسب بنشر الجيش على الحدود الشمالية، إلى أن أدرك الأميركيون أن كلفة عدم استقرار لبنان هي أكبر بكثير من كلفة تأمين ملاذ آمن للمتمردين في سوريا. حينئذٍ، وصلت الرسالة الأميركية الى مَن يعنيه الامر في الحكومة اللبنانية، التي توافق اطرافها المتباينين على ارسال الجيش الى الشمال بعدما فلت الوضع الأمني وبات من الصعب ضبطه.
إذًا صمت سياسي مريب، انعكس تمييعًا واحتواءًا وما يشبه التخاذل الأمني، أدى الى كل هذا التخطي للقانون، وظلم العسكريين والضباط واحتلال مؤسسة عامة وقطع طريق صيدا وقطع أرزاق المواطنين. أما أسباب هذا الاستهداف للجيش فتتجلى في ما يلي:
1- يترافق استهداف الجيش مع تزايد المطالبات بنزع سلاح المقاومة، ففي نفس الوقت الذي تُنفذ فيه اعتداءات على الجيش وسعي لتفتيته واضعافه نشهد تزايد مطالبات تلك القوى نفسها بنزع سلاح المقاومة، وهذا ما يثير الريبة، إذ إن المطالبة بنزع سلاح المقاومة يجب أن يترافق "منطقيًا" مع تفعيل دور الجيش وتسليحه وتقويته للتعويض عن دور المقاومة في مواجهة اسرائيل، إلا اذا كان الهدف اضعاف الاثنين خدمة لإسرائيل.
2- ابعاد  الجيش عن منطقة الشمال، لاستباحتها وتحويلها الى منطقة نفوذ "مستقبلي" تستخدم في شنّ هجمات على الداخل السوري، وانشاء ملاذ آمن للمسلحين والارهابيين الذين يفرّون من سوريا. ولعل محاولة استباحة الشمال بهذه الطريقة، تذكّر بما حصل في الجنوب خلال عمل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، والتي حوّلت الجنوب الى ما سمي "فتح لاند"، ما لبثت بعدها أن تحولت الى سبب من أسباب اندلاع الحرب في لبنان.
3- إن تقاطع الهجمات على الجيش والتحريض ضده بين التكفيريين وتيار المستقبل والقوات اللبنانية، يشير الى مخطط ما، يريد إظهار فشل الجيش في حفظ الأمن، ما يبرر المطالبات بالأمن الذاتي واقتناء السلاح والعودة الى زمن الميليشيات وفرض الخوّات على اللبنانيين، وبالتالي مواجهة سلاح المقاومة بسلاح داخلي محلي يفقدها شرعيتها.
4-  ان سقوط الجيش يبدو حلقة من مخطط جهنمي يهدف الى تهجير المسيحيين من المشرق، والعمل على اشعال نار الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة. إن سقوط الدولة اللبنانية، أو سقوط أجزاء منها بيد المجموعات التكفيرية، سيؤدي بطبيعة الحال الى أعادة أجواء الفرز السكاني الذي حصل خلال الحرب. وبدون الأمان الذي يوفره الجيش اللبناني، ستفقد المناطق المسيحية أمنها، وعندها يكون مصيرها إما التهجير، أو القبوع تحت سيطرة الميليشيات التي ستسارع الى الحديث عن خطر يتهدد المسيحيين والادّعاء أن السلاح الذي يصلها هو لحماية و"أمن المجتمع المسيحي" وهو "فوق كل اعتبار".
واقعيًا، لم يبقَ من هيكل الدولة المهترئ شيئًا، فلا الوضع الأمني ولا الاقتصادي ولا السياسي ولا الاجتماعي ولا الخدماتي بات مقبولاً أو يمكن السكوت عنه، في أسوأ مرحلة يشهدها لبنان منذ انتهاء الحرب. إن ما وصلت اليه أحوال البلاد من التردي الأمني وتخطي القانون واحتلال المؤسسات العامّة، تبدو أمورًا غير مسبوقة في تاريخ الدولة اللبنانية، وسياسة النأي السياسي والعسكري والقضائي عن محاسبة المرتكبين وضبط الوضع الأمني تعيد عقارب الساعة الى الوراء، وتؤكد أن اللبنانيين لم يفهموا شيئًا من دروس الحرب، والا لما كرروها. مصيبة لبنان ابتلائه بمجموعة من السياسيين القاصرين العاجزين اللاهثين الى السلطة، غير مدركين ان سقوط الجيش سيعني سقوط الهيكل على مَن فيه، والسلام على لبنان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق