2012/08/08

حَفظَ المرأة - الإنسان... أتى "الربيع" يدميها

 ليلى نقولا الرحباني 

لم تكن مقاومة ظلم المرأة في المجتمع
 الإسلامي بالنسبة للسيّد محمد حسين فضل الله ترفًا فكريًا، أو نوعًا من التباين مع الفكر السّائد لإظهار الذات، بل كانت خيارًا عقلانيًّا ايمانيًا بناءً على حاجة وضرورة للدفاع عن قيم الإسلام الصحيح، وردّة فعل ضدّ ظلم وتشويه الإسلام، وحق المرأة – الإنسان المهدور باسم الدين. ومن البديهي القول بأن رجلاً يمتلك فكرًا ووعيًا وعقلاً راجحًا كما يملك السيد محمد حسين فضل الله، كان ومن منطلق إيمانيّ صحيح، قد حسم خياره بالدّفاع عن الكرامة الكيانية للإنسان والسَّير في معركة إخراج الدين من التصوّرات الإنسانية المشوّهة، التي جعلته في كثير من المحاور مليئًا بالخرافات والأساطير وبأساليب مختلفة للحطّ من قدر الإنسان وكرامته، وجعله أداةً لعبودية الإنسان للإنسان من خلال تعاليم وقيم متخلّفة ألصقت بالدين، وهو بريء منها.
لقد رأى السيد أنّ الجهل والحرمان والتناحر الاجتماعي وحرمان المرأة – أي نصف المجتمع- من حقوقها الأساسية واعتبارها من قِبل البعض وكأنّها أَمَةٌ أو جارية للخدمة في المنزل، هي آفات تهدّد المجتمع في بنيانه وقوّته، وتحرم المجتمع من السَّير بطاقاته الكاملة بل تجعله مجتمعًا أعرج يسير بساق واحدة، ممّا يؤدّي الى تخلّفه وجهله. لقد وجد أنّ الموروثات الثقافيّة الحاطّة من شأن المرأة تنتشر في مجتمعاتنا أفقيّاً وعاموديّاً متخطّية الحواجز الدينيّة والطائفيّة والاقتصاديّة، ومنتشرة في الأمثال الشعبيّة المتوارثة عبر الأجيال. فمن المثل الشعبي "المرأة مثل السّجادة من مرة لمرة بدها تنفيض"، نجد السيّدات المعنفّات في مختلف الطّبقات الاجتماعيّة وبغضّ النظر عن انتمائهنّ الدينيّ أو الطائفيّ أو المذهبي، كما يذهب بعض الأزواج- بغضّ النظر عن مستواهم التعليميّ والفكريّ والمادي- الى اعتبار عقد الزواج، عقد عبوديّة وقّعته المرأة أو مَن ينوب عنها، أو عقدًا بموجبه اشترى الرجل من المرأة عقلَها وقلبَها وعملَها وجُهدَها وفكرها وجسدها، ولم يعد بإمكانها استرجاع أيٍّ منها أو استرجاع قدرة التحكّم فيها.
وهكذا، حسم السيّد قراره واعتمد المواجهة ومقاومة واقع مركّب من صور الظّلم والعدوان على كرامة الإنسان وبالأخصّ كرامة المرأة، فكان خياره بمقاومة الموروثات الثقافيّة الحاطّة من قيمة ذلك الإنسان الأضعف بنيويّاً، ومجابهة الكثير من تقاليد "الجاهلية" التي جعلتها في كثير من الأحيان، عبدًا أو على الأقل إنسانًا أقل شأنًا من الرّجل، وهو ما يناقض الإسلام الصحيح، وما جاءت به تعاليم النبيّ محمد.
تمثّل السيّد فضل الله قولَ رسول الله: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الايمان". وإذا أردنا أن نعطي تفسيرًا حقيقيّاً للمعروف والمنكر، فالمعروف لا ينحصر بالصّلاة والصّوم والحجّ وغيرها من العبادات وأعمال الخير، بل يمكن أن يتّسع لكلّ عدل وحقٍّ في الحياة، والمنكر لا ينحصر بشرب الخمر وأكل مال اليتيم وغيرها من المحرّمات، بل هو يتّسع لكلّ الظّلم والباطل في الحياة. وإذا عرفنا أنّ العلم والعدل هما أعلى أنواع المعروف، وأنّ التخلّف والجهل والظلم هي أشدّ أنواع المنكر، فالمؤمنات - كما المؤمنون- مدعوَّات إلى التحرك في خطّ العلم والثقافة وفي خطِّ العدل، وللتحرّك ضدّ خطّ الظّلم والجهل والتخلّف والانحراف.
انطلق السيّد فضل الله في مسيرته لإعلاء شأن المرأة معتمدًا مبدأَين "التوعية الاجتماعية والبناء العقائدي" من أجل شرح الإسلام الصحيح، فدعا إلى نصرة الحقّ والدفاع عن المظلوم، ولم يكتفِ بالموقف الشخصيّ بل إنه ومن مسؤوليّته الشرعيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، حضّ الناس على نصرة الحقّ والدّفاع عن المظلوم ودعاهم لمواجهة الظّالم، أيّاً يكن هذا الظّالم سواء كان عدوّاً مغتصبًا للحقوق، أو حاكمًا مستبدّاً جائرًا، أو مجرّد زوج يظلم زوجته وبناته في المنزل ويحرمهنّ من حقوقهنّ الأساسيّة.
  وهكذا، كان للسيد، صديقَ المرأة العربيّة والمسلمة ورافع شأنها، الكثير من الفتاوى التي أكّدت على هذا الدّور الذي أناطه بها الإسلام، والتي كان لكثير من الغلاة انتقادات عليها، فكان أهمّها أن "قوامة الرجل على المرأة لا تعني سيادته عليها" و"تكريس حقّ المرأة كإنسان في الدفاع عن نفسها إذا اعتدى عليها زوجها". لقد انطلق السيد في الفتوى الأخيرة من منطلق أنّ القرآن يقرّ بالمساواة في الكرامة الإنسانيّة بين الرجل والمرأة، ويعطي الإنسان الحقّ في الدّفاع عن نفسه إذا اعتُدي عليه ظلمًا، ومنحه حقّ مقاومة المعتدي، لذا يكون من حقّ المرأة المظلومة كإنسان أن تدافع عن نفسها ضدّ الظالم المعتدي وحتى لو كان زوجها، وهو إنسان مثلها وهي ليست عبدة له أو أَمَة لديه.
لم يرد الإسلام للمرأة أن تنكفئ بعيدًا عن حركة المجتمع والإطار السياسيّ والاجتماعيّ العام، فالمجتمع يحتاج إلى جميع الطّاقات، ويحتاج إلى طاقة كلٍّ من المرأة والرجل، ويفرض على المرأة أن تنمّي طاقاتها كما يفرض على الرجل ذلك. وهكذا عندما يواجه المجتمع تحدّيات كبرى ويشهد انحرافًا ما، سواء كان انحرافًا في الحكم أو في السياسة وغيرها، لا بدّ من أن يكون للمرأة دور في مواجهة الانحراف، بكلّ ما لديها من طاقات وقدرات، وإلا إعتُبرت مُخلّة بواجباتها التي دعاها إليها القرآن، وهذا ما أراد السيّد محمد حسين فضل الله، أن يثبّته وأن يؤكّده في جميع خطبه وفتاواه بخصوص المرأة.

طيلة حياته، عاش السيد فضل الله همّ الأمّة، وهو يراها تسير في التخلّف والجهل، وتنحرف عمّا أوصاها به النبيّ محمد، خاصّة بشأن التعامل مع المرأة المسلمة. فماذا كان سيقول السيّد فضل الله اليوم وهو يرى الفتاوى المشينة بحقّ المرأة تطفو على وسائل إعلامية معدّة للفتنة والتجهيل، وماذا كان سيفعل لو شاهد الأمّة تسير في نفق من الظلاميّة والتكفير والجهل والتعصّب وحجب المرأة وإعادتها الى ثقافة جاهليّة، أسموه زورًا "ربيعًا عربيًا"؟.
هل سنجد في هذه الأمّة مجدَّدًا رجالاً تعتمد سلطانَ العقل، وتدرك كما أدرك السيّد قبلهم أنّ الدين أتى لخدمة إنسانٍ جعله الله القيمة الأسمى على الأرض وليس العكس، أو بالتحديد كما أتى في عبارة السيد المسيح للفريسيّين حين لاموه لأنه قام بمعجزة شفاء يوم السّبت، فوبخهم قائلاً "السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت"، أي إنّ كرامة الإنسان هي الأهم والأسمى، وإنّ القانون والشريعة والدين كلّها خُلقت من أجل الإنسان، مخالفًا بذلك المفهوم اليهوديّ التقليديّ الذي يقوم على المظاهر الخارجيّة والطقوس وقشور الدّين، ومؤكّداً أنّ الإيمان الحقيقي هو ذلك النابع من القلب والذي يحترم كرامة كلّ إنسان بما هو خليقة الله وصنيعته.
بحسب فهمنا، وكما لمسنا من فكر السيّد فضل الله، يريد الله رحمةً لا ذبيحة، يريد قلوبًا لا عروشًا، يريد محبّة وسلامًا لا اقتتالاً وحقدًا وفتنة بين المؤمنين، يريد مؤمنينَ طاهري القلوب لا منافقين يبطّنون الكفر ويدّعون الإيمان. إنّ ما يحصل اليوم، يشير إلى أنّ البعض يريد للعرب أن يسيروا في التاريخ في مسارٍ تراجعيٍّ يسير بهم بسرعة الى العصر الجاهليّ وعصور ما قبل الإسلام،  فهل من فكرٍ نيّرٍ في هذه الأمّة كفكر السيّد فضل الله يقف في وجه هذا المسار التأخيريّ، ويعيد للأمّة ذلك الفهم لصورة الله ومراده؟
    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق