2018/08/16

هل يحقق ترامب النبوءة الماركسية؟

في مراجعة الاستراتيجيات الكبرى الأميركية، نجد أن أوروبا احتلت حيّزًا مهمًا من التفكير الاستراتيجي الأميركي. فمنذ الحرب العالمية الثانية - وبعض الباحثين يتحدثون عن ما قبل هذا التاريخ- اعتمدت الولايات المتحدة سياسة "أوروبا أولاً" ؛ وعلى الرغم من أن اليابان، وليس ألمانيا، هاجمت بيرل هاربور، حافظ الأميركيون على سياسة "أوروبا أولاً" طوال فترة الحرب.
كان الأدميرال هارولد ر. ستارك ، قائد العمليات البحرية الأميركية، المخطط الاستراتيجي لسياسة "أوروبا أولاً" الأميركية. وقد لخصت المذكرة التي أعدّها ستارك في 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1940 مأزق الولايات المتحدة إذا وجدت نفسها في حرب على جبهتين، بقوله: "إذا فازت بريطانيا بحسم ضد ألمانيا، فبإمكاننا الفوز في كل مكان. ولكن إذا خسرت... بينما قد لا نخسر في كل مكان، ربما لا نفوز في أي مكان".
وانطلاقًا من هذه المسلمة الاستراتيجية، اعتمد روزفلت عام 1941، استراتيجية "أوروبا أولاً" والتي اعتمدها جميع الرؤساء الأميركيين من بعده، فكانت خطة مارشال، وكان التحالف الاستراتيجي المستمر بين الولايات المتحدة وأوروبا طيلة عقود طويلة جعلت "الغرب" يبدو ككتلة متراصة، تنسّق سياساتها الخارجية والأمنية والإقتصادية، وجعلت الولايات المتحدة تنشر قواعدها العسكرية لحماية أوروبا من أي تهديد خارجي.
حتى خلال الحرب الباردة ، استمرت أوروبا ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أكثر من آسيا، ولهذا السبب كان الأميركيون يحوّلون القوات الأميركية من آسيا الى أوروبا عندما يزداد التشنج بين القطبين.
أما اليوم، ولأول مرة في التاريخ الأميركي منذ عهد الرئيس روزفلت، يضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أوروبا في مصاف "الأعداء" أو "الخصوم"، معتبرًا أن واشنطن تتحمل 91 % من تكلفة أمن أوروبا، وإن الناتو الذي تصرف عليه الولايات المتحدة عشرات مليارات الدولارات هو لخدمة الأوروبيين وليس الولايات المتحدة...
وبالرغم من عدم إدراج أوروبا ضمن التهديدات المحتملة في الاستراتيجية التي أعلنها البيت الأبيض في كانون الأول / ديسمبر الماضي، تعدّ هذه التصريحات وغيرها، قطيعة مع مسار ثابت في سياسات الأمن القومي الأميركية منذ بدء إعلانها مع روزفلت ولغاية اليوم، والتي تعتبر أمن الولايات المتحدة من أمن أوروبا وبالعكس.

ولقد دخل ترامب في نزاع مع الأوروبيين، ومعظم دول العالم الغربي، بعدما  فرض رسومًا على واردات الألمينيوم والصلب الأوروبية، وهدد بفرض رسوم جمركية على السيارات الأوروبية المستوردة. ولولا التنازلات العديدة التي قدمها الأوروبيون ضمن الاتفاقية التي عقدها ترامب مع يونكر، ومنها إقامة موانئ لإستيراد الغاز المسال الأميركي، لدخل الاوروبيون والأميركيون في حرب تجارية كانت ستقضي على النمو في أوروبا وعلى آلاف الوظائف.
وهكذا، يدخل ترامب في حرب تجارية وعقوبات اقتصادية مع الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء، ويقطع مع الاستراتيجيات الأميركية السابقة التي كانت تعتبر ان "قيادة" أميركا للغرب والنظام الرأسمالي ومؤسساته الإقتصادية، والمحافظة عليهم، يعد أمرًا حيويًا بالنسبة للأميركيين.
وإذا صحّ ما اعلنه ترامب في تغريداته، أن "الاقتصاد الأميركي ينمو بسرعة، وأن معدلات البطالة هي الأفضل منذ 50 عامًا، وأن العديد من الشركات الكبرى تعود إلى الولايات المتحدة"، فهذا يعني أن الجمهوريون قد يسيطرون على الكونغرس الأميركي في الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، ما يطلق يد الرئيس في تنفيذ سياساته. وهكذا قد تنتقل الولايات المتحدة من "الاستراتيجيات الكبرى" الى عهد "الترامبية"، والتي قد تحوّل الكتلة الغربية المتراصة والتحالف الاستراتيجي الأميركي - الغربي الى شيء من الماضي...
وبالتالي، هل يكرّس ترامب مقولة كارل ماركس، من أن النظام الرأسمالي يحمل بذور انهياره من الداخل بسبب الجشع والطمع الذي سيخلق الأزمات داخله، وسيؤدي الى تفككه في النهاية؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق