ما زالت تداعيات الهجرة غير المسبوقة التي اجتاحت أوروبا عام 2015، تؤثر على جميع دول الاتحاد الأوروبي بدون استثناء، حيث يعيش الإتحاد صعوبات غير مسبوقة منذ تأسيسه، تهدد بانفراط عقد ذلك الاندماج الذي حصل في معاهدة ماستريخت وما زال مستمرًا ولغاية اليوم.
وبينما تعاني السويد من عدم القدرة على تشكيل حكومة منذ الانتخابات التي حصلت في ايلول 2018، وتعيش فرنسا على وقع الاضطرابات وتظاهرات السترات الصفراء، ترتفع أسهم اليمين في كل من إلمانيا والنمسا وغيرها. يضاف الى ذلك، المشاكل التي ستترتب على خروج بريطانيا بدون اتفاق، والتي ما زالت تهدد مستقبل تيريزا ماي السياسي، كما هددت أزمة الهجرة واللاجئين مستقبل أنجيلا ميركل السياسي.
وعليه، يبدو أن الأزمات ستلاحق أوروبا في العام 2019، والتي يبدو أن جزءًا منها حقيقي، وجزء آخر مفتعل بفعل الشعبوية اليمينية، وما يطلق عليه في العلم الأكاديمي باسم "الأمننة" securitization
"الأمننة" كمصطلح متداول في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، يعني قيام فاعلين سياسيين في الدولة ( سواء في السلطة أو خارجها)، بتحويل مواضيع اجتماعية أو إقتصادية غير أمنية الى مسائل أمنية، بمعنى آخر هي كناية عن عملية تسييس القضايا وتضخيم خطرها، وتصويرها كتهديد للأمن القومي. وهذه القضايا قد لا تمثّل بالضرورة قضايا أساسية لبقاء الدولة، بل ربما تمثّل قضايا متعلقة بمشكلة تمسّ الأفراد، أو قد تتطور لتتضمن قضايا تشكّل قلقًا للجماعات، كتضخيم خطر الهجرة على الهوية الاجتماعية أو الخصوصية الثقافية في أوروبا، أو ما يقول عنه الجمهور من أن الهجرة هذه هدفها تغيير وجه أوروبا الحضاري خلال جيل أو جيلين من الآن، وذلك عبر فرض تغييرات ديمغرافية وغيرها.
ويقول باري بوزان - صاحب النظرية - أن الأمننة ليست مجرد تحركات أمنية، بل هي عملية منهجية تصبح من خلالها القضايا "مؤمننة"، وذلك عندما تجدي طريقها الى عقل الجمهور، فيتقبلها وكأنها مسلمات.
وهكذا، تقوم "الأمننة" باستخدام طرق منهجية تهدف الى تحويل بعض القضايا من مجرد فواعل اجتماعية إلى مشاكل أمنية - "وجودية" في معظم الأحيان- ثم إتخاذ هذا التهديد الوجودي كذريعة لإستخدام التدابير الإستثنائية لحلّ تلك القضايا بطرق راديكالية ما كانت لتُعتمد لولا أمننة تلك القضايا. ولكي تكون "الأمننة" أكثر نجاحًا، يجب أن تجد قبولاً بين الجماهير وذلك من خلال استخدام تعابير وخطب شعبوية تخاطب الغرائز وتحوّل القضية الى شعور بالتهديد الوجودي، بغض النظر إذا كان لبّ المشكلة يشكّل تهديدًا حقيقيًا أم لا. وهكذا، باتت قضية اللجوء في اوروبا والتي تمّ تحويلها الى قضية أمنية، تهدد المجتمعات الأوروبية وتتسبب بارتفاع أسهم اليمين المتطرف بشدّة، خاصة بعد ارتباط العامل الديني والثقافي بالمهاجرين، وتصوير هؤلاء اللاجئين بأنهم باتوا يشكّلون تهديدًا أمنيًا وجوديًا للمجتمعات الأوروبية.
وعليه، وبما ان الساسة الأوروبيون يعانون اليوم من خطر تحوّل مجتمعاتهم الى اليمين المتطرف، وبالتالي خسارة مقاعدهم النيابية وأغلبياتهم الحكومية، فإن الحلّ بالنسبة لهم، قد يكون ملاقاة دونالد ترامب في منتصف الطريق، وبالتالي الذهاب مسرعين الى سوريا لتقديم مساعدات إعادة الإعمار، والتنسيق مع النظام السوري لإعادة اللاجئين السوريين الى بلادهم.
وهكذا، وتزامنًا مع هرولة العرب لإعادة سوريا الى الجامعة العربية، وإعادة فتح السفارات العربية، سيكون عام 2019، عام عودة العلاقات الأوروبية السورية، وفيها مصلحة مشتركة لكل من سوريا وأوروبا، فالسوريون يحتاجون الى أموال لإعادة الإعمار، وتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا والتي تفرمل القدرة على تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، أما الأوروبيون فيحتاجون الى إعادة اللاجئين الى بلادهم - او جزءًا منهم على الأقل- بعدما بات من غير المجدي الرهان على الاستثمار في موضوع اللاجئين لتحقيق التغيير السياسي المنشود في سوريا بواسطة الانتخابات، إذ إن استمرار هذا الرهان سيكون خسارة كبيرة للأوروبيين، فقد يتغير وجه أوروبا السياسي كلّها قبل أن يتغير النظام السوري أو يرحل بشار الأسد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق