بغض النظر عن نتائجه السياسية التي تحتاج الى أكثر بكثير من لقاء صلاة وحوار في بكركي، كان اللقاء الذي عُقد بين السياسيين المسيحيين بدعوة من البطريرك الماروني بشارة الراعي خطوة جيدة في مسيرة الالف ميل، التي قد لا تنتهي في مدى منظور أو قريب.
ومهما تكن النتائج المباشرة وغير المباشرة لذلك اللقاء، يمكن القول أن مجرد اللقاء يجعل من البطريرك الراعي ومن البطريركية المارونية بالتحديد، تضطلع بدور مختلف يرسم لمرحلة ما بعد البطريرك صفير ويحتوي تداعياتها ويحاول أن يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقة الافضل بين بكركي وجزء كبير من مسيحيي لبنان بشكل خاص والمشرق بشكل عام، كما ومسلميه ايضًا.
ما يحاول ان يقوم به الراعي من حركة انفتاحية تحت شعار شركة ومحبة، واللقاءات السياسية التي يعتزم القيام بها، تبدو ضرورة وحاجة وطنية ومسيحية في زمن يعيش فيه المسيحيون المشرقيون ما يمكن ان يُعتبر أخطر فترة في تاريخهم الحديث. فما كان يُحكى عن ترحيل للمسيحيين في البواخر في السبعينيات، وما قيل يومها أنه نوع من نظريات المؤامرة المختلقة، بات اليوم يقينًا. فها هم المسيحيون في العراق يتعرضون لأسوأ أنواع الاضطهاد ومحاولات الترحيل الجماعية القسرية، وها هي فلسطين تفرّغ من مسيحييها، ناهيك عما حصل في مصر وسواها. وهكذا، يحتاج هذا الخطر الداهم على المسيحيين الى دور جامع تقوم به مؤسساتهم الدينية والزمينة وخاصة في لبنان، الامر الذي لم يستطع أن يفعله كل من البطريرك صفير والرئيس ميشال سليمان، باعتبار الاول كان المسؤول الروحي عن موارنة انطاكيا وسائر المشرق، والثاني يمثل أعلى سلطة سياسية خصصت للمسيحيين في لبنان.
سابقًا، لم تستطع المرجعيتان أن تكونا على مستوى التحدي والخطر الذي يعيشه المسيحيون في المشرق، واذا كان البطريرك الجديد يحاول أن يلعب دور الراعي ويفتح صفحة جديدة تؤسس لعهد ما بعد البطريرك صفير وتزيل تداعيات انحيازه الى فريق سياسي معين، لا بل انخراطه كليًا في المشروع الاميركي في المنطقة، فإن دور رئاسة الجمهورية اللبنانية الحالية ما زالت ترتسم حوله الكثير من علامات الاستفهام.
بلا شك إن موقع رئاسة الجمهورية هو موقع وطني لجميع اللبنانين، أو هكذا يفترض ان يكون. ولكن، شئنا أم أبينا، فالرئاسة الاولى تمثل الدور المسيحي في النظام الطائفي اللبناني، وعليه، إن رئيس الجمهورية اللبنانية مدعو دائمًا لتحمل مسؤوليات دوره الجامع كضامن للوحدة وخاصة في زمن الازمات الوطنية والاقليمية التي ترخي بنتائجها على الوطن اللبناني، وهذا ما لا يظهر بوضوح أن سليمان مدركه.
لا يبدو الرئيس ميشال سليمان مدرك أن اتفاق الدوحة الذي أتى به، والطائف الذي تحوّل دستورًا للبلاد في التسعينيات لا يسمح له بالأحلام التي تراوده، بل تفرض عليه الالتزام بدور الحكم الوفاقي المحافظ على التوازن الهش في البلاد وهو ما يتطلع اليه الافرقاء السياسيين للعبه.
لقد تمخض اتفاق الدوحة الذى أتى كتسوية مقبولة بعد تبدل ميزان القوى في 7 أيار 2008، عن انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية متعهدًا بلعب دور الحكم الضامن، على ألا ينخرط في المحاور المتقابلة. وعليه، كان من الممكن لرئيس الجمهورية ان يتنصل من التنازلات والوعود السابقة التي قدمها للأميركيين وبالتحديد للسفير الاميركي جيفري فيلتمان للقبول به مرشحًا لرئاسة الجمهورية، فيخرج من الصراع الدائر وينأى بنفسه عن المحاور.
لكن "الهدية" التي قدمها له حزب الله- كما ورد في وثيقة ويكليكس- لم تشبع نهم الرئيس للسلطة، بل كان يريد من المقاومة ان تمده بكتلة نيابية وازنة، تسمح له بمواجهة العماد عون ومنافسة تكتل التغيير والاصلاح. وعندما لم تطابق حسابات بيدر سليمان حسابات الحقل السياسي اللبناني، ولم يستطع فن الاقناع والاغواء الذي مارسه سليمان مع فيلتمان، في النجاح مع المقاومة بابعادها عن العماد عون، قرر سليمان أن "يحارب المقاومة حتى النهاية" كما ورد في نفس الوثيقة.
وهكذا دخل سليمان كما سبق للبطريرك صفير أن فعل قبله، الى طرف في الصراع الدائر، يحاول فرض نفسه لاعبًا سياسيًا رئيسيًا على الساحة المسيحية، معاديًا بذلك التيار الاقوى على تلك الساحة. ولعل الاثنان اقتنعا بما كان روّجه فيلتمان ووكلائه من شعار"عونيون بلا عون".
اليوم، لا يبدو أن الرئيس سليمان درس تجربة البطريرك صفير جيدًا، فقد وضع الرجلان نفسيهما في مواجهة الغالبية العظمى من المسيحيين، وانخرطً كل منهما بحسب موقعه في المحور المعادي للمقاومة، يسعى لأن يقتطع من حصة العماد عون والتيار الوطني الحر النيابية. لكن صفير انهى حياته السياسية مقدمًا استقالته، بعدما أتعب نفسه وبكركي بوضعها رأس حربة في المشروع الاميركي، جاعلاً من نفسه عروبيًا عندما يريد مهاجمة ايران، وغربيًا في مواجهة سوريا، ومسيحيًا في مواجهة المسلمين، وأميركيًا في مواجهة المقاومة....
في تقييم تجربة الرجلين، نجد أنه:
- شعبيًا، لم يستطع لا سليمان ولا صفير أن يحصلا على تأييد مسيحي ينافسون به التيار الوطني الحر، بسبب تاريخ من النضال والصدقية والرؤيوية تحلى بها العماد عون. ولأن خيارات المسيحيين اللبنانيين وتجربتهم أثبتت فشل الرهانات على الخارج، كما أثبتت خطورة الاتكال على الغرب والاميركيين. وايقن المسيحيون أن لا مفر لهم من العيش مع اخوانهم المسلمين في هذا الشرق، وإن الانفتاح على المشرق والتجذر فيه هو الحل الوحيد والانسب لمشاكلهم المتراكمة والمتوارثة منذ عقود.
- سياسيًا، لم يستطع أي منهما فرض نفسه لاعبًا حقيقيًا لا على الساحة الوطنية ولا على الساحة المسيحية. فقد تخلوا طوعًا عن دور الحَكم المنوط بهما الاضطلاع به، بالمقابل ان المحور الذي انخرطا به له قادته ومحرّكيه ولن يسمح لهما بدور قيادي فاعل فيه، وما الآمال التي بنياها بمنافسة ما على الساحة المقابلة الا من نتاج أوهام فيلتمان المستمرة لغاية اليوم.
في المحصلة، كان بامكان رئيس الجمهورية أن يحصل على الصورة الجامعة التي رآها اللبنانيون في بكركي، لكن خيارات الرئيس، وتعطيل البلد الذي يمارسه طمعًا في مقاعد وزراية بالاضافة الى التمحور الذي أدخل نفسه فيه، جعل موقع الحَكم في حالة فراغ، والطبيعة تكره الفراغ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق