2011/10/27

هل تركت أميركا العراق؟.. ولمن؟

بإعلان الرئيس باراك أوباما نيته سحب جنوده من العراق بانتهاء السنة الحالية وعدم تمديد العمل بالاتفاقية الأمنية الموقعة بين البلدين في عهد الرئيس جورج بوش، يكون الرئيس الأميركي قد وفى بوعده للأميركيين خلال حملته الانتخابية السابقة، وأزال من أمامه موضوعاً إشكالياً يمكن أن يثار في وجهه ووجه حزبه في الانتخابات القادمة، من خلال اتهامه بعدم الايفاء بوعوده، كما يمكن له أن يطل على الناخبين معلناً تحقيق "انتصار تقشفي" يسهم في تخفيف الأعباء عن الاقتصاد الأميركي، بعد أن رجحت مصادر اقتصادية مستقلة أن كلفة إبقاء كل جندي أميركي في العراق توازي ما متوسطه مليون دولار في السنة.
واقعياً، لقد أتى احتلال أفغانستان والعراق من قبل الأميركيين لمصلحة إيران الاستراتيجية، فقد قضى الأميركيون على حكم طالبان الذي سمح بامتداد النفوذ الإيراني في آسيا الوسطى، كما أطاحوا بعدو إيران الشرس صدام حسين الذي أقام معها حرباً امتدت ثماني سنوات، وشكّل حاجزاً أمام امتداد النفوذ الإيراني في المنطقة.
واليوم بلا شك، سيؤدي الانسحاب الأميركي من العراق إلى تقوية النفوذ الإيراني في المنطقة ككل، وخصوصاً بعدما بدأت السعودية تظهر انكفاء واضحاً في سياستها الخارجية من خلال الملف السوري والتطورات العربية الأخرى، وقد يعود ذلك لحاجة المملكة إلى الالتفات للشأن الداخلي بسبب الخوف من انقسام داخل العائلة المالكة يحصل بعد وفاة الملك، قد يؤدي إلى تفتيت المملكة إمارات متنازعة يحكم كل منها أمير من الأمراء الفاعلين.
لكن القول بأن الانسحاب الأميركي "العسكري" من العراق هو دليل انهزام أميركي وخروج منكسر من المنطقة، يبدو مغالياً نوعاً ما، فالأميركيون لا يحتاجون إلى بضعة آلاف من العسكريين  لحفظ مصالحهم في العراق، فالنفوذ الأميركي السياسي مستمر من خلال حلفائهم في الحكومة العراقية ومجلس النواب، أما النفوذ الاقتصادي فتحققه الشركات النفطية وشركات إعادة الإعمار، ويبقى التأثير العسكري الذي يمكن أن يتم من خلال إبقاء قوة أميركية تحت ستار "مدني"، أو من خلال شركات الأمن الخاص التي تنتشر بكثافة في العراق، والتي يمكن لها أن تعمل من خلال القواعد العراقية، بالإضافة إلى المدربين الذين سيشرفون على تدريب وتجهيز الجيش العراقي، والذين سيكون لهم تأثير قوي على الجيش بطبيعة الحال.
علماً أن الاستراتيجية العسكرية التي يطبقها الأميركيون في العراق اليوم، هي تحقيق لما كان قد أعلن عنه روبرت غيتس في مقال له في فورين افيرز عندما تحدث "أن بناء قدرات الحلفاء الأمنية والعسكرية أولويات استراتيجية الأمن القومي الأميركي"، فالولايات المتحدة وبسبب تغير طبيعة التهديدات تحتاج إلى "تطوير قدرات الشركاء" ومساعدة الدول الأخرى على الدفاع عن أنفسها، وتدريب قواتها على القتال إلى جانب القوات الأميركية في عملية مشتركة على أرضها، إذا دعت الحاجة.
وهكذا تستعد إيران اليوم إلى ملء الفراغ الاستراتيجي الذي قد يخلّفه الانسحاب الأميركي، وتقارب طهران الملف العراقي من زاوية استراتيجية أساسية في سياستها الخارجية الشاملة لأسباب عدة، تتعلق بمعادلة توزع القوى والصراع في المنطقة، وخصوصاً بعد تطورات "الربيع العربي" وصعود التيارات الإسلامية، وما هو متوقع من وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في كل من مصر وتونس، بالإضافة إلى الضغوط الشديدة التي يتعرض لها الحليف السوري. لذا ستعمل على تقوية نفوذها في العراق ومحاولة الاستئثار بالحصة الأكبر من التأثير في السياسات العراقية.
أما الأهداف التي تريد إيران تحقيقها من سياستها التدخلية في العراق ومن نشر نفوذها في الشرق الأوسط، فتتجلى فيما يلي:
1-  استقرار النظام: تعاني إيران من محاولات مستمرة من الولايات المتحدة وغيرها من الدول لزعزعة استقرار النظام الإسلامي منذ الثورة الإسلامية عام 1979، وقد تزايدت هذه المحاولات خلال السنوات المنصرمة في ظل ما عرف باسم الثورة الخضراء والتي سبقت الثورات العربية. لذا تسعى إيران من خلال سياستها الخارجية وتجميع الأوراق الإقليمية تحقيق حد أدنى من الحصانة في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية والغرب، تجعل النظام الإيراني شبيه بوضع النظام الشيوعي في الصين، أي بعبارة أخرى، أن يكون مسموحاً انتقاد النظام الإيراني، ولكن ليس محاولة الإطاحة به.
2-  تكريس حقها في الاستفادة من مواردها الطبيعية: من الأهداف الاستراتيجية الكبرى بالنسبة لإيران هو ضمان سيطرتها على مواردها الطبيعية ومصادر الطاقة وتكريس حقها في الطاقة النووية السلمية، وتأمين التمويل والتكنولوجيا اللازمة لاستغلال مواردها والحفاظ على قدراتها. وتحاول إيران استغلال مواردها إلى أقصى حد بما يعود عليها بفائض مالي يسمح بالتخفيف من وطأة العقوبات عليها، كما تحاول أن تستخدم ما لديها من أدوات قوة ونفوذ في العراق كأوراق في سبيل ضمان سلامة مواردها ومصادر الطاقة لديها.
3-  تكريس دورها الإقليمي: تقوم إيران بتبني كل ما يلزم من أدوات القوة الإقليمية في العراق وسواه، التي تؤمن لها القدرة والنفوذ للتأثير على جميع مجريات الوضع الإقليمي، كما يهم طهران أن تستخدم كل ما يمكن لها من أدوات القوة هذه للتأثير على التطورات السياسية الإقليمية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بما يتفق مع مصالحها الاستراتيجية والإيديولوجية.
والنتيجة، إنه بعد الانسحاب الأميركي من العراق، ستعمل إيران على أن يبقى العراق موحداً ومستقراً مع سيطرة لحلفائها على السلطة، ومن البديهي أن تعد العدّة لسد الفراغ الاستراتيجي ومحاولة استخدام البوابة العراقية "الصديقة" لتعزيز نفوذها وتعزيز قدرة حلفائها، والحفاظ على النظام السوري قوياً متماسكاً متكئاً على تحالفه مع قوة إقليمية كبرى باتت على حدوده المباشرة الآن.

أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق