2012/02/15

الجيش ... وزمن الجحود السياسي

منذ أن بدأت الأحداث في سورية، وبالتحديد منذ الانفلات الأمني الخطير الذي تشهده الأراضي السورية، يتعرض الجيش اللبناني لضغوط متنوعة وحملات سياسية، ومحاولات إشغال تلهيه عن المهمات المفترض به القيام بها، للحفاظ على السيادة اللبنانية وحفظ الأمن والاستقرار.بالمبدأ، يضطلع الجيش بمقتضى القانون بمهمة الدفاع عن الدولة اللبنانية، أي مهمة الدفاع عن أرض لبنان وشعبه والسلطة القائمة فيه، فيحفظ السيادة اللبنانية من خلال منع أي جهة خارجية من انتهاك الحدود اللبنانية، ويقوم بمؤازرة الأجهزة الأمنية في الداخل لمنع أي قوة من المسّ بالسيادة اللبنانية، أو تهديد الاستقرار أو الانقلاب على السلطات الشرعية.
من هذا المنطلق، وبعد أن تفاقم الوضع على الحدود اللبنانية السورية، وتحوّلت مناطق لبنانية بأكملها، إلى مناطق تعجّ بمسلحين من جنسيات متعددة يتسللون إلى سورية، وبعد أن امتلأت صفحات الإعلام الأجنبي والمحلي بأخبار وصور المسلحين المدججين بالسلاح في مناطق عكار بحجة مناصرة "الثورة السورية"، وبعد أن تهاونت السلطة السياسية اللبنانية في الاضطلاع بمسؤولياتها في حفظ سيادتها، ومنع التسيب على حدودها، بذريعة "النأي بالنفس"، الأمر الذي دعا السفير السوري إلى إرسال تحذير واضح إلى السلطات اللبنانية يحثها فيها على الالتزام بمسؤولياتها القانونية والاتفاقية.. بعد كل هذه التطورات، قام الجيش اللبناني بمهمة ناجحة في تلك المناطق موجهاً رسالة إلى من يعنيه الأمر، أن التسيب ومحاولات تقويض الاستقرار في سورية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية لم يعد مسموحاً به بعد الآن.
ورداً على النجاح الذي حققه الجيش اللبناني، استخدمت قوى المستقبل وحلفاؤه، استراتيجية سياسية ميدانية الأوجه يمكن استشراف بعض معالمها، أو ما ظهر منها لغاية الآن بما يلي:
- هجوم سياسي فاجر مبرمج على الجيش اللبناني، فقد استفاض المستقبل وحلفاؤه، كما رموز التيارات السلفية في الشمال في الهجوم على الجيش ونعته بأوصاف يندى لها الجبين، وكأنما ليس لهذا الجيش مواقف مشرّفة طوال تاريخه، بل كأنما هو جيش العدو الإسرائيلي، والأدهى، أننا لم نسمع صوت هؤلاء حين كان الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال في غزة، وينتهك الحرمات الفلسطينية، ولم يصفوه بالنعوت البشعة والحاقدة والدعوة إلى الجهاد ضده كما قرأنا وسمعنا الخطابات الحاقدة والمشينة والداعية إلى قتل أفراد وعناصر الجيش اللبناني.
- محاولة إلهاء ميدانية للجيش اللبناني، وذلك لمنعه من ضبط الفلتان الذي كانت تشهده الحدود الشمالية مع سورية، ولعل التفجير الأمني الذي شهدته طرابلس، والتوتير المتصاعد ميدانياً، والذي ترافق مع خطابات سلفية ومذهبية خطيرة جداً، كان يهدف إلى إلهاء الجيش اللبناني، ومنعه من تنفيذ عمليات الانتشار المقررة في أكثر من منطقة حدودية، وذلك لتغيير أولوياته وحضّه على الانتشار في مناطق وأحياء طرابلس لضبط الأمن، بدلاً من التوجه إلى الحدود اللبنانية السورية لضبطها.
إذاً، شنّ الحريريون والسلفيون هجوماً على الجيش، لا لشيء، إلا لأنه نفذ القانون، وحافظ على استقرار لبنان ومنع تحوّل جزء من الوطن إلى منطقة مستباحة لتهريب المال والسلاح والعتاد والرجال إلى سورية، لتهديد أمنها، أرادوا من خلال الهجوم السياسي الضغط على الحكومة لمنع الجيش من استكمال تدابيره بحفظ الأمن في منطقة عرسال – وادي خالد، وذلك للاستمرار في المخطط القائم بمحاولة إقامة منطقة لبنانية عازلة على الحدود السورية، تكون منطلقاً للاعتداء على سورية، لكن فشلهم في مسعاهم هذا جعلهم يتحولون إلى الضغط الميداني.
إن الخطط التي يدبرها الحريريون والسلفيون ضد الجيش اللبناني ليست جديدة، والهجوم على الجيش ليس جديداً أيضاً، فمَن منا ينسى محاولات تغيير العقيدة القتالية، ومن ينسى تصريحات تكفير الجيش والخطة الجهنمية التي أودت بحياة العسكريين بنهر البارد ومحاولة زج الجيش وإغراقه في حرب مخيمات جديدة، كل هذه الخطط تؤكد أن المستقبل وحلفاءه يريدون الجيش أداة في أيديهم، يقمعون بواسطته خصومهم، ويريدون منه أن يغض النظر عن مؤامراتهم العابرة للحدود، وفي النهاية، يريدون منه أن يضرب المقاومة، فإن لم يستطع نزع سلاحها، فعلى الأقل يحققون هدفاً آخر، وهو جر المقاومة إلى قتال الجيش اللبناني ما يفقدها شرعيتها، ويخسرها جمهورها الداعم، ويألب الرأي العام اللبناني ضدها.
إن ما يحصل اليوم على الجيش، يجعلنا نشعر كما في كل مرة أن العقلية الميليشوية التي تكره الجيش اللبناني لم تزل مسيطرة على الطبقة السياسية اللبنانية، وإن أمراء الحرب لبسوا شكلياً البزات وربطات العنق، لكنهم لم يخلعوا حقدهم على الدولة والمؤسسات والقوى الشرعية، يحقدون على الجيش الذي يشكّل سياج الوطن، والذي لم تلوثه لوثة النفاق والدجل والطائفية والمذهبية البغيضة، كما لوثتهم، لذا يريدون أن ينحروه في زواربيهم المذهبية، وفي أقبية جهلهم وحقدهم.
قد يكون التصرف الميليشوي لتيار المستقبل مفهوماً ومعروفاً، وسكوت حلفائه ممن يضمرون حقداً مزمناً على الجيش اللبناني منذ زمن الميليشيات مفهوماً أيضاً، لكن ما لا يُفهم هو سكوت السلطة السياسية و"رؤوسها" واعتماد سياسة النأي بالنفس في هذا المضمار، وإذا سلمنا جدلاً، أن الميقاتي ينأى بنفسه عن الدفاع عن الجيش اللبناني، وعن تحويل المعتدين على الجيش إلى القضاء، لأسباب مذهبية انتخابية ضيقة، فما الذي يجعل رئيس الجمهورية اللبنانية يعتمد أيضاً سياسة النأي بالنفس والصمت عما يحصل من مؤامرات وتحريض ضد الجيش اللبناني، وهو الخارج من رحم المؤسسة العسكرية، والتي يدين لها بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، وما الذي يجعل وزير الدفاع وغيره يعتمدون مبدأ الصمت؟.. بالفعل، إنه زمن "الجحود" السياسي بكل ما للكلمة من معنى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق