كما في سورية ومصر وتونس، كذلك في لبنان، يبدو الطرف المدعوم أميركياً رافضاً لفكرة الحوار، متشبثاً بمواقفه الرافضة لأي تنازل يمكن أن يؤدي إلى تسوية سياسية تحفظ الوطن وتحافظ على حقوق للجميع، مقابل أطراف تدعو إلى الحل السياسي والحوار حول مستقبل البلاد، وهكذا نرى الحكومة اللبنانية بأطرافها كافة تحاول دفع عجلة الحوار في لبنان، ما قد يؤدي إلى إراحة الجو السياسي المشحون، وتحريك العجلة الاقتصادية في البلاد، مقابل رفض المعارضة، التي تتذرع بذرائع شتى لرفض الحوار وعرقلة إقرار قانون انتخابي عصري يلائم تطلعات الأجيال الجديدة.. ومثلهم المسلحون في سورية؛ يرفضون الذهاب إلى حوار وتسوية سياسية، واضعين الشروط السياسية التي يمكن أن تفجّر أي حوار قبل بدايته، وأن تقضي على أي آمال بتسوية سياسية ممكنة.
وإذا كان النمط العقائدي لأطراف المعارضة في سورية يتسم بالفكر الإلغائي للآخر، والتكفيري لأي مختلف بالرأي، فإن المؤسف أن الأطراف اللبنانية الخارجة من تجربة شبه ديمقراطية، لم تصل لغاية الآن إلى اقتناع بأن السياسات الاستئثارية الديكتاتورية التي اعتُمدت في الدول العربية لا يمكنها أن تطبَّق في لبنان، الذي يتسم تاريخه بكثير من الحرية وعدم قدرة أي طرف على إلغاء الأطراف الأخرى، مهما استقوى بالخارج، فمحاولات المارونية السياسية للاستئثار أدّت إلى احتقان سياسي ساهم في تأجيج الحرب، التي أدّت إلى تهميش المسيحيين في النظام، ثم محاولة "تيار المستقبل" تقليد المارونية السياسية بالاستئثار بحكم لبنان بعد اغتيال الحريري، أدّت إلى ما وصل إليه الوضع اللبناني اليوم على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والتسيب الأمني.
ومن العجيب أن النظام اللبناني القائم على التوافق وتقاسم السلطة بين الطوائف (والذي أدى إلى إضعاف الدولة لصالح حكم الطوائف، والذي سمح للدول الغربية والعربية بالتدخل بالشؤون اللبنانية وتغذية الصراعات) يبدو الحل الأنسب المطروح في العالم العربي اليوم، الذي تعاني دوله من انقسامات طائفية ومذهبية وإثنية وعرقية تؤجج الصراع، وتجعل من التداخل بين المكونات يحتاج إلى "صيغة فريدة" كالصيغة اللبنانية، التي تسمح للجميع بالمشاركة في السلطة، والحصول على حق الفيتو في القرارات المصيرية الكبرى، فلا حل لمصر إلا بقبول "الإخوان" بالتعددية المصرية، التي تجعل من الجميع شركاء في الدولة وفي صنع السياسيات، كما أن بوادر التسوية السورية لا يمكن أن تكون إلا من خلال "طائف" سوري يسمح بتقاسم السلطة بين النظام والمعارضة غير المحظورة أميركياً، ويحفظ حصة الجميع في التركيبة الحكومية، ويعطي الطوائف الكبرى قدرة على وضع فيتوات متبادلة خلال صنع القرار.
مع الأسف، إن المسار الذي تسيره الدول العربية على أثر الحراك الشعبي والعسكري الذي حصل، ينبئ بأن المجتمعات العربية لن تخرج بسهولة من صراعاتها التي ترتدي لباساً دينياً، إلا بتقوية الجماعات على حساب الدولة، وتقويض الانتماءات الوطنية لصالح الانتماءات القبلية والطائفية والمذهبية، ما يعني إضعافاً شديداً لمفهوم الدولة ككل، وهو ما قد يؤدي إلى تعزيز وضع "إسرائيل"، التي قيل يوماً إنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق، ويبدو أن مسار الأحداث قد يجعلها "الدولة" الوحيدة في الشرق، أو على الأقل "الدولة غير الفاشلة" الوحيدة الموجودة بين هياكل دول فاشلة تتصارع فيما بينها على البقاء، ويغرق أبناؤها في "حروب الآلهة" على الأرض، ويحتاجون دائماً إلى "عرّاب" أو "وصي" يحلّ لهم خلافاتهم ويضبط إيقاع التوازنات الهشّة فيما بينهم.
هكذا إذاً تتجرع الدول العربية من الكأس المرّ الذي شرب منه لبنان على مدى عقود طويلة، والذي أدّى إلى إضعاف الدولة اللبنانية، فها هي الشعارات الطائفية والمذهبية تنتشر كما انتشرت في لبنان، وها هي الدول الكبرى تسيطر على ناصية قرار الأطراف كما سيطرت سابقاً على اللبنانيين، وها هو الشعب السوري يدفع ثمناً باهظاً لحروب الآخرين على أرضه؛ كما دفع اللبنانيون سابقاً.
لكن، ومن منطلق أننا السابقون وهم اللاحقون، وإن كان قد بقي لنا حق التمني، فنحن نتمنى أن يسير لبنان مسيرته الطبيعية نحو بناء دولة حكم القانون، الذي يعرّفه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأنه الحكم الذي يكون فيه القانون فوق الجميع؛ من مسؤولين وأفراد، والذي يؤمّن معاملة جميع المواطنين بالتساوي، فيفرض عقوبات، ويؤمن حماية متساوية لحقوق الإنسان العائدة إلى الأفراد والجماعات الذين يخضعون للقانون لا لمشيئة القوي، والأهم، على القانون أن يحمي الجماعات الضعيفة من الاستغلال والتعسف، وهو ما يجعل الجميع يطمئن إلى مصيره ووجوده ويمنع محاولات الاستئثار والتهميش التي تؤدي إلى دورات من العنف والاقتتال، وعليه، على المعارضة اللبنانية أن تدرك دقة المرحلة التي نمر بها، وأننا محكومون بالحوار والتوافق، فلقد اختبرنا الحرب الطائفية، وخبرنا التدخلات الأجنبية، ولتعلم أن التاريخ لن يرحم من رفض أن يمد يده لينقذ بلده من شرّ يتربص به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق