2020/04/14

تبدل أولويات الأمن القومي بعد كورونا!

يقف العالم اليوم، مذهولاً أمام هول الكارثة التي حلّت بالدول كافة في ظل تفشي جائحة كورونا، وتساوي قدرة دول كبرى على المواجهة والاحتواء مع دول صغيرة وأخرى هشة ومفلسة كلبنان على سبيل المثال لا الحصر، الذي فاق بقدرته على احتواء الوباء أفضل بكثير من قدرة بعض الدول الاوروبية.
والأكيد، أن الوباء اليوم كشف هشاشة وقدرة العديد من الدول في التعامل مع التهديدات، وبالتالي من المنطقي أن تقوم تلك الدول - في مرحلة ما بعد كورونا- بإعادة تقييم شاملة لمستوى جهوزيتها الوطنية، ومستوى قدرتها على الاستجابة للمخاطر المستجدة. وهذا التقييم سيفرض إعادة ترتيب الأولويات في موضوع التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي، ويمكن أن يفضي الى إعادة تعريف للأمن القومي ككل.
تنطلق الدول عادة، من فكرة أن التهديدات التي يجب مواجهتها هي بشكل أساسي عسكرية - أمنية، ما یجعل التهدید الخارجي والخوف من السیطرة الأجنبیة، من الأولویات الرئیسیة لأمن الدول. وهكذا يكون التعريف التقليدي للامن القومي، والذي يبدو أنه يضيق يومًا بعد يوم في ظل زيادة التحديات العالمية، وهو "ما تقوم به الدول للحفاظ على سلامتها من الأخطار الداخلیة والخارجیة التي قد توقعها تحت سیطرة أجنبیة أو تكون عرضة للتضحية بالقيم الأساسية، نتیجة ضغوط خارجیة أو انهیار داخلي".
وانطلاقًا من هذه المقاربة التقليدية، برزت مدرستان، الاولى تركّز على الجانب العسكري والتهديد الخارجي للدولة، والثانية تضيف الى ما سبق أمن الموارد الحيوية والاستراتيجية، والتنمية التي بدونها لا محل للحديث عن الأمن.
ومع تطور الظروف الدولية وتبدل مصدر التهديدات وتطورها، تبدلت النظرة الى الموضوع الأمني، وبات يُنظر الى الأمن القومي باعتباره أبعد من الدولة كوحدة، وأضاف الباحث - المرجع في الدراسات الأمنية- "باري بوزان" المخاطر الفردية والمجتمعية، والتهديدات العابرة للحدود، والأزمات الزاحفة، والكوارث الطبيعية الخ باعتبارها جزء لا يتجزأ من النظرة المعاصرة للأمن القومي.
أما "روبرت كابلان" فأضاف إلى هذه التهديدات أبعادًا أخرى، تتعلق بالاكتظاظ السكاني، الأمراض المعدية، التحزبات القبلية والعشائرية الخ، واعتبر أنها تشكّل تهديدًا للأمن العالمي، ويمكنها أن تدمر النسيج الاجتماعي لكوكب الأرض .
وبالرغم من كل هذه التطورات والأفكار بقيت الدول- خاصة الكبرى منها- تركّز على البعدين العسكري والاقتصادي باعتبارهما يشكّلان قوة الدول الأساسية، وبقيت العوامل الأخرى في إطار ثانوي الى أن أتت أزمة كورونا فكشفت هشاشة وقصر نظر التفكير الأمني التقليدي للدول.
وهكذا، يمكن أن نشير الى بعض المقاربات العالمية التي ساهمت بتفاقم أزمة كورونا وتأثيراتها في بعض الدول، نذكر منها:
- في الولايات المتحدة:  
في مقارنة بين استراتيجية الأمن القومي التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتلك التي وضعها قبله الرئيس باراك أوباما، نجد أن التهديدات جراء التغيرات المناخية والبيئة والصحة وحقوق الانسان التي أوردها اوباما في استراتيجيته، غابت كليًا عن استراتيجية ترامب وحلّ مكانها التنافس الاستراتيجي مع روسيا والصين، والتهديدات من كوريا الشمالية وايران كأولوية.
- في الإطار الاوروبي:
استمر الأوروبيون - بشكل عام - بالتركيز على التهديد الاستراتيجي الروسي، وتنبهوا لتحديات الهجرة غير الشرعية، ومشاكل النمو الاقتصادي، وأغفلوا كليًا التهديد الصحي، بدليل أن معظم الدول الأوروبية قامت بخصخصة قطاعات الصحة والمواصلات وغيرها، معرّضة أمنها القومي لأخطار لم تكن في الحسبان.
- سياسات و"نصائح" منظمة الصحة العالمية:
سوّقت منظمة الصحة العالمية "معاييرها العالمية" لفعالية الأنظمة الصحية في العالم، وحصرت الموضوع بحجم "الكلفة المادية"، والتي تقوم على فكرة أنه كلما كان إنفاق الدولة أقل، كان نظامها الصحي أكثر فعالية، والعكس صحيح، في إغفال واضح لمبدأ جودة الصحة وقدرة المواطنين على الوصول للخدمات الصحية في قياس تلك الفعالية، وهو ما تبيّن عدم صحته اليوم.
بالاضافة الى ما سبق، شجعت منظمة الصحة العالمية الدول على الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص في المجال الصحي والمستشفيات، وهذا ما أثبت عدم فعاليته في هذه الأزمة حيث اضطرت دولة مثل فرنسا - على سبيل المثال- الى تأميم المستشفيات لمواجهة كارثة كورونا.
في المحصلة، لا بد للدول اليوم، وبعد أن تنجلي أزمة كورونا، من أن تعيد تقييم سياساتها الصحية، ووضع الأمن الصحي في سلم الاولويات وبشكل موازٍ للأمن العسكري. والأهم، بات على العالم الحذر مما يسوّق له كوصفات عالمية، والتي يبدو أنها تخدم أدوات العولمة النيوليبرالية كالشركات الكبرى، وهي في إطار الصحة: شركات الأدوية الكبرى، وشركات التأمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق