أقامت السفارة السعودية في لبنان، مؤتمراً في قصر الأونيسكو- بيروت، بمناسبة مرور 33 سنة على توقيع اتفاق الطائف، الذي رعته المملكة العربية السعودية في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين. حضر المؤتمر العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية، وتحدث فيه العديد من الشخصيات التي أكدت أهمية الحفاظ على تلك الوثيقة وتطبيقها، وضرورة عدم المساس بها.
لا شكّ في أنّ وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) التي أدّت إلى تعديل الدستور اللبناني في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، يجب أن لا تكون منزّلة لا يمكن المسّ بها، ولا شيء يمنع اللبنانيين أو مواطني أيّ دولة من تعديل الدستور في حال وجدوا ثغرات، أو تحوّل الدستور إلى مُعطّل للنظام والحياة السياسية، كما هي حال الدستور اللبناني الحالي (المعدّل بموجب القانون الدستوري الصادر في 21 أيلول/سبتمبر عام 1990).
ولا شكّ في أنّ الدعوة إلى إجراء تعديلات دستورية، ليست دعوة للتخلي عن النظام السياسي في لبنان، الذي يعتمد الصيغة التوافقية التي ما زالت – لغاية الآن- النموذج الذي لا يمكن التخلي عنه بسبب هواجس المجموعات وقلقها، وخاصة بعد التطورات التي حصلت في العالم العربي، وفي المشرق العربي خصوصاً، منذ عام 2003 وما تلاه، والتي أدّت إلى تهجير مكونات أساسية، وطغى الخطاب المذهبي على الخطاب القومي الجامع.
لم ينشأ مفهوم الديمقراطية التوافقية كغيره من النماذج الديمقراطية التي انطلقت من أثينا، ومن مفكري وفلاسفة الأنوار بل نشأ من التجارب المقارنة حول العالم. بداية، جرت دراسة هذا النموذج وتدويله من خلال بعض المؤلفات التي تتحدث عن أنظمة الحكم في كل من بلجيكا والنمسا وسويسرا وكندا، ثم امتدّ المفهوم إلى بعض بلدان العالم الثالث، وخصوصاً إلى ماليزيا وقبرص وكولومبيا والأوروغواي ونيجيريا.
أما النموذج التوافقي اللبناني، فهو صيغة سبقت قيام الدولة اللبنانية، إذ امتدّ منذ نظام الملل العثماني ونظام القائمقاميتين والمتصرفية وفي إصلاحات شكيب أفندي، إلى أن ثبّته الفرنسيون خلال الانتداب، ثم كرّسه ميثاق وصيغة 1943، وفيما بعد اتفاق الطائف.
وقد صاغ العالم السياسي الهولندي ليبهارت Arend Lijphart، هذا النموذج في كتابه، وعدّد خصائصه على الشكل التالي:
1- حكومة ائتلاف واسع
هذا الأمر يميّز النموذج التوافقي عن النموذج البرلماني التقليدي الذي يقوم على "حكومة مقابل معارضة". وقد رأى البعض أن هذا النوع الائتلافي يحمي الأقليات الموجودة، ويعطيها مجالاً للمشاركة في الحكم لا تتيحه لها الأسس البرلمانية.
2- نسبية في التمثيل بدلاً من قاعدة الأكثرية
وهذا ما يلاحظ في لبنان من خلال توزيع المقاعد النيابية والوزارية والرئاسات على أساس طائفي نسبة إلى حجم الطوائف وعديد أفرادها.
3- الفيتو المتبادل كوسيلة لحماية الأقلية ضد القرار الأكثري
المشاركة في الائتلاف الحكومي قد لا تكفي بالفعل لحماية الأقليات، لذلك يجب إعطاء هذه المجموعات حق النقض في الأمور ذات الأهمية الحيوية والمصيرية بالنسبة لها ولوجودها. وهو ما يسمى في لبنان: "الميثاقية"، وهو ما ورد صراحة في مقدمة الدستور اللبناني التي أضيفت بعد الطائف والتي تنص في الفقرة (ي) منها على "أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
4- إدارة ذاتية للمجموعات في بعض الشؤون الخاصة. تمنح الديمقراطية التوافقية الثقافات الفرعية إدارة ذاتية في الميادين التي تخصها مباشرة.
ونلاحظ هذا الأمر في لبنان من خلال إعطاء الطوائف الحرية في المحاكم الشرعية والأحوال الشخصية، علماً أن ذلك كرّس تفاوتاً بين اللبنانيين في إدارة شؤونهم وميّز بينهم، وكانت المحاكم الدينية سبباً في الإجحاف الذي طال عديداً من النساء اللبنانيات وأطفالهن.
منذ نشأته، ومنذ استقلال لبنان، يعتقد كثير من المفكرين والباحثين اللبنانيين أن التمثيل النسبي الطائفي أو ما يعرف بالطائفية السياسية هو علة العلل في لبنان، وأنّ هذا النظام يستولد الأزمات وهو الذي أدى إلى الحروب الأهلية.
أما البعض الآخر فعدّه أفضل الحلول الممكنة، منطلقاً من مقولة إن النظام الأكثري في ظل تعدد طائفي ومجتمعات غير متجانسة قد يكون أشد إيلاماً من حكم الحزب الواحد في الأنظمة الأكثرية، إذ في الديمقراطيات المتجانسة، هناك احتمالات بأن تتحول الأقلية إلى أكثرية بفضل تغيير الرأي العام الذي يغير مسار الانتخابات، أمّا في المجتمعات المتعددة وغير المتجانسة فإن الأقلية الإثنية أو الطائفية أو اللغوية محكوم عليها سياسياً بالبقاء أقلية وبالعزل، ولا يمكنها الاعتماد إلا على نمو ديمغرافي متسارع.
وبغضّ النظر عن هذا التباين السياسي والفكري في النظرة إلى "النظام التوافقي اللبناني" الذي لا يبدو أنّ هناك ميلاً لتغييره في لبنان في الوقت الراهن، فإنّه من المهم النظر إلى الدساتير بصيغة متحركة لا جامدة، يجب أن تكون –دائماً- تعبيراً عن حاجات المجتمع ونموه وتطوره في زمن معين، ويجب أن تعكس ضرورات استمرارية العملية السياسية وتأمين المخارج الضرورية درءاً للتعطيل، مع ضرورة تأمين الأدنى المطلوب من الوحدة والتوازن، ومن العدالة والكرامة، والحرية والديمقراطية، للجميع وبين الجميع.
في النتيجة، فإنّه وبعد كل أزمات الحكم التي حصلت في لبنان، وبعد كل التعطيل الذي أدخل لبنان في أزمات مستعصية الحل بدون تدخل خارجي، فإنّ وضع "دستور الطائف" بمنزلة الدستور المنزّل غير القابل للتطوير أو للتعديل، لا يبدو منطقياً، فلقد وُجد القانون والنظم السياسية لخدمة الإنسان والمجتمع وليس الإنسان والمجتمع لخدمة النظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق