د. ليلى نقولا الرحباني
كما في كل مرة؛ تقوم على عاتق الجيش اللبناني وأبطاله الشهداء مهمّة تنظيف الأوساخ التي يتسبّب بها سياسيّو لبنان ممن امتهنوا التلاعب بمصير الوطن، واللعب على وتر الغرائز المذهبية، ومحاولة استجلاب الخارج لفرض موازين قوى مختلفة في الداخل، فسياسة استجلاب المسلحين السوريين إلى لبنان، وإيوائهم وتركهم يسرحون ويمرحون باسم "النأي بالنفس"، أنتجت بيئة إرهابية عشعشت في مناطق عدّة في لبنان، منها عرسال التي انفجرت، وطرابلس وعكار والمخيمات الفلسطينية المرشّحة للانفجار في أي وقت من الأوقات.
يقاتل الجيش اللبناني لتحرير عرسال من خاطفيها الإرهابيين اليوم، في ظل التفاف شعبي غير مسبوق انسحب على جميع الطوائف والأحزاب اللبنانية، اللهم باستثناء بعض أصوات النشاز التي لا تمثّل أي بيئة لبنانية ولا طائفة ولا مذهب، إنما تمثل مصالح أصحابها الضيقة، ومحاولة بعض السياسيين أن يقتاتوا على دماء الشهداء من أبطال الجيش وأهل عرسال الفقراء، الذين اتخذهم المسلحون دروعاً بشرية.
قد لا يكون مستغرَباً هذا الالتفاف الشعبي حول الجيش اللبناني، إذ يعي اللبنانيون أن الجيش يقاتل اليوم لمصلحة لبنانية مثلثة الأضلاع تتجلى في ما يلي:
أولاً: يقاتل الجيش اللبناني التكفيريين في عرسال لحماية لبنان التعددي، الذي بات أكثر من حاجة مُلحّة في هذا الشرق الذي يتجه بسرعة جنونية نحو التطرف والأحادية، وفي ظل توجُّه محموم لتفتيت دُوَله على أساس مذهبي.
لذا، فالمعركة المصيرية التي يقوم بها الجيش اللبناني اليوم إنما يقوم بها نيابة عن لبنان بالدرجة الأولى، وستستفيد منها سورية والأردن والعراق بالدرجة الثانية، فسقوط "داعش" و"النصرة" في لبنان سيُضعف هذه الجماعات الإرهابية في كل المشرق العربي، ونجاحها في لبنان سيغريها للتوسُّع نحو دول مجاورة لديها فيها بيئات حاضنة، فتطمح إلى بناء دولتها الفاشية فيها.
ثانياً: يحارب الجيش اللبناني من أجل "السُّنة" بالدرجة الأولى، ثم من أجل باقي الطوائف اللبنانية بالدرجة الثانية، فلقد استغل الإرهابيون تعاطف أهل عكار وعرسال وطرابلس والبقاع مع النازحين السوريين، فحاولوا استغلال هذه الضيافة لفرض واقع جديد بقوة الحديد والنار مختلف عن البيئة السُّنية اللبنانية المعروفة بانتمائها العروبي المقاوم لـ"إاسرائيل"، وانفتاحها على البيئات اللبنانية الأخرى، وتفاعلها معها بحُسن جيرة وأخوّة حقيقية.
فعلياً، الخطر التكفيري الإرهابي يطال السُّنة المعتدلين قبل غيرهم من البيئات الأخرى، فالتكفيري سيحاول فرض رؤيته الدينية المشوِّهة للإسلام على السُّنة من اللبنانيين، قبل أن يحاول التمدد إلى البيئات الأخرى.
لقد أظهر نموذج حكم التكفير "الداعشي" في العراق أن السُّنة لم يسلموا من تكفير داعش، وأن الجماعات الإرهابية لم تكتفِ بتهجير وقتل بالمسيحيين والأكراد واليزيديين وغيرهم، بل انتقلت لتنكِّل بسنّة العراق الذين اعتقدوا - للوهلة الأولى - أن المجموعات المسلحة إنما أتت لتخلِّصهم من سنوات من الظلم والتهميش، في ظل دولة قامت على المحاصصة بعد احتلال الأميركيين للعراق، فإذا بهم يتعرضون لأسوأ أنواع الهمجية الجاهلية التي لم توفر شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا حتى أعراضهم وبناتهم وأبناءهم.
ثالثاً: يقاتل الجيش اللبناني اليوم من أجل الأقليات من الطوائف اللبنانية بالدرجة الأولى، والأقليات في المشرق بالدرجة الثانية، فانتصار الإرهابيين واستخدامهم القتل والإجرام باسم الدين يعني محو كل أثر للأقليات في هذا المشرق، وتهجيرهم إلى بلاد الله الواسعة، وطمس كل معالم حضارات السكان الأصليين في البلاد العربية، وهو ما حصل في الموصل ونينوى، حيث قام الإرهابيون بطرد سكان العراق الأصليين وطمس تاريخ يمتدّ لمدة ستة آلاف سنة من الحضارة الإنسانية.
وهكذا إذاً، فُرض على الجيش اللبناني خوض معركة الحفاظ على الوطن اللبناني برمّته، وهي معركة وجودية تتطلب من اللبنانيين كافة التوحّد خلف الجيش، ومن السياسيين والمسؤولين إقران القول بالفعل، والكفّ عن محاصرة الجيش اللبناني، تارة بالكلام التشكيكي بصحة البيانات التي يطلقها، وطوراً باستثارة الحساسيات المذهبية بوجهه، وفي معظم الأحيان بالافتراء عليه، وتعريض ضباطه وجنوده للخطر.. فلنتوحد خلف الجيش اللبناني الذي يقاتل من أجل بقائنا في هذا الشرق، ومن أجل حقنا في الحياة، والعيش بكرامة، ومن أجل حق شعوب هذا المشرق بحُريّة الضمير والوجدان والدين.
د. ليلى نقولا الرحباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق