كان
المشهد الدولي في الذكرى الخامسة والسبعون لإنزال النورماندي والانتصار على النازية، لافتًا. ففي الوقت الذي
اجتمع الأوروبيون والأميركيون في فرنسا، كان اجتماع هام يعقد في سانت بطرسبورغ يجمع
بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الصيني "شي"، ضمن مؤتمر سان بيترسبورغ
الاقتصادي للتأكيد على وصول العلاقات الروسية
الصينية الى مستوى تاريخي من خلال زيادة التعاون الدبلوماسي والاستراتيجي بين الطرفين.
وفي
الوقت الذي لم يقم الأوروبيون بدعوة الرئيس بوتين الى الاحتفال بالرغم من أنهم كانوا
قد قاموا بدعوته عام 2004، قاطع الأميركيون منتدى سان بيترسبورغ الإقتصادي، متذرعين
بأن البيئة السائدة في روسيا ترهب ولا تشجع المستثمرين الاجانب. وعليه، تحديًا للقرار
الأميركي بتحجيم وفرض عقوبات على الشركة الصينية العملاقة هواوي لعزلها دوليًا، وقع
الروس مع الشركة اتفاقية لبدء تشغيل شبكات "جي 5" في روسيا.
واقعيًا،
منذ إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما استراتيجيته "التوجه نحو آسيا"،
إزدادت العلاقات الصينية الروسية تحسنًا، وقطع الروس والصينيون مراحل هامة في علاقاتهما
الثنائية تقطع مع إرث الحرب الباردة حيث ساد التوتر والقطيعة بين البلدين... استفاد
الصينيون من قيام الروس بإشغال الأميركيين في الشرق الأوسط عسكريًا، الأمر الذي أخّر
قدرة الإدارة الأميركية على تحويل القدرات نحو آسيا وبحر الصين الجنوبي لإحتواء الصين،
مما سمح بتسارع قدرتها على تطبيق مبادرة "طريق الحرير الجديد". وهكذا، بدأت
مرحلة جديدة من البراغماتية المزدوجة، جعلت تقاطع مصالح الطرفين في مواجهة الولايات
المتحدة تطغى على تباين المصالح بينهما وسباق النفوذ في آسيا الوسطى.
ولكن،
وبالرغم من كل هذه المظاهر اللافتة، إلا أن العودة الى الثنائية القطبية وبروز تكتلات
كبرى تواجه بعضها البعض يبدو أمرًا متعذرًا، فبالرغم من محاولة الأوروبيين والأميركيين
إظهار نوع من وحدة الصف إلا أن الخلافات التي ظهرت في المعسكر الغربي بعد مجيء ترامب
تجعل من المتعذر إعادة تشكيل محور غربي متماسك. يأخذ الأوروبيون على ترامب تدخله في
شؤون القارة، وتشجيع البريطانيين على الخروج من الاتحاد، كما تشجيع اليمين الأوروبي
للوقوف بوجه توسيع الاتحاد أو زيادة فعاليته وقدرته. ويطمح الأوروبيون، على الاقل إلمانيا
وفرنسا، الى أن يأتي يوم يعلن الاتحاد استقلالاً أمنيًا وسياسيًا عن الولايات المتحدة.
في المقابل، يأخذ ترامب على الاوروبيين، عدم قيامهم بزيادة مساهماتهم في موازنة حلف
الناتو، واستغلال الغطاء الأمني الأميركي لتقليص موازنات الدفاع واستثمار أموالهم في
التنمية الداخلية، في وقت يعاني فيه الاميركيون من أزمات إقتصادية داخلية. كما يبدي
ترامب استياءه من قيام الأوروبيين بشكل عام والألمان بشكل خاص بشراء الغاز الروسي،
بينما يستفيدون من المظلة الاميركية الأمنية.
في
المقابل، وبارغم من كل التقارب الصيني الروسي الحالي، وبالرغم من كل الكلام الذي أطلقه
الرئيسان حول التعاون الاستراتيجي غير المسبوق، إلا أن سباق النفوذ وتباين المصالح
في آسيا الوسطى بالاضافة الى إرث من العلاقات التاريخية المتوترة، تجعل من "شهر
العسل" الصيني الروسي، مجرد مرحلة تفرضها الحاجة لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية،
وخاصة إدارة ترامب التي تدفع الجميع الى المواجهة مع عقوبات إقتصادية وحروب تجارية
متنقلة.
في
النتيجة، يبدو أن العالم يتجه الى مرحلة تشبه
الى حد بعيد مرحلة عصر "توازن القوى" الاوروبي، أي التعددية القطبية والتنافس
القومي، وسيكون من الصعب إعادة العالم الى عصر الثنائية القطبية والاستقطاب الايديولوجي
الذي يوحد الجميع ويقسم العالم بستار حديدي، فالتمايز والتباين ضمن المحور الواحد سيمنع
أي إمكانية لقيام تكتلات استراتيجية صارمة تنافس بعضها البعض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق