2020/11/02

انتخابات الرئاسة الأميركية: العولمة على مفترق طرق

لا شكّ أن نظام العولمة النيوليبرالي كان يعاني الكثير من المشاكل والتحديات قبل مجيء دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية. ولقد تعمّقت الأزمة التي يعانيها هذا النظام- الذي وصل إلى أوج قوته في العقدين اللذين تليا انهيار الاتحاد السوفياتي- بعد الأزمة الإقتصادية العالمية التي ضربته بقوة عام 2008، والتي بدأت في الولايات المتحدة وضربت كل الأنظمة الرأسمالية، فكان مجيء ترامب وصعود اليمين في أوروبا هو نتيجة لتلك التحديات وليس سبباً لها.
بعد عام 2008، ضربت الأزمة الإقتصادية بقوة الطبقات المتوسطة في الغرب، ولم تستطع إدارة أوباما والسلطات الحاكمة في أوروبا أن تخفف من وطأة تلك الأزمة، لا بل إن التنافس الإقتصادي والسباق على الأسواق انتقل من الشركات الكبرى إلى الدول الصناعية التي وجدت أن الصين باتت المنافس الأقوى عالمياً، فكانت الإستراتيجية الأميركية لإحتواء الصين، وهو ما سمّاه أوباما "التوجه نحو آسيا".
ولعلّ الأزمات المتتالية من هجرة غير شرعية ومنافسة محمومة في سوق العمل، وانتقال الصناعات الى الشرق الأقصى طمعاً بالربح الأكبر والاستفادة من اليد العاملة الرخيصة، زادت من غضب الفئات الشعبية على السلطات الحاكمة، وبدا أن العولمة باتت في عنق الزجاجة، فبدأ الاستقطاب في الدول الغربية، وتسابقت الطبقات الحاكمة في الغرب على تقديم تصوّراتها لإنقاذ الهيمنة، فبرز جناحين راديكاليين: اليمين الليبرالي واليسار الليبرالي.
في الإنتخابات الأميركية عام 2016، حاربت المؤسسة الأميركية الحاكمة (الاستبلشمنت) كل من اليمين واليسار، فأطاحت ببارني ساندرز لتأتي بهيلاري كلينتون (ممثلة الطبقة الحاكمة)، التي خسرت خسارة مذلّة أمام تيار اليمين الممثّل بدونالد ترامب.
ومع مجيء ترامب، انتعش التيار اليميني في العالم، وارتفعت أسهم اليمين في أوروبا بشكل لم يعرفه منذ الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي أدخل النظام النيوليبرالي في أزمة حقيقة، مما أوجب إجراءات جذرية وإلا فإن أربع سنوات إضافية من حكم ترامب، قد تجعله ينهار كلياً.
وهكذا يبدو عام 2020 مفصلياً في هذا المسار، فلقد ضربت جائحة كورونا العالم، وبالرغم من المشاكل الإقتصادية والصحية التي سببتها وأعداد القتلى التي خلّفتها، فإن الدول النيوليبرالية سوف تستفيد منها في أمرين: الانتخابات الأميركية، وتكريس هزيمة اليمين.
- الإنتخابات الأميركية: يترقب العالم كله نتيجة الإنتخابات الأميركية في 3 تشرين الثاني / نوفمبر. أما بما يخصّ دول الغرب الليبرالي، فإن هزيمة ترامب (التي قد تكون بشكل أساسي بسبب الجائحة) تعني العودة الى السياسة التقليدية للولايات المتحدة الأميركية، كما تعني ضربة كبرى لليمين العالمي الذي دعمه ترامب وأعطاه متنفساً. وبمراجعة سريعة لما فعله ترامب خلال عهده، نجد أنه قوّض المؤسسات التعاونية الغربية، وخرج من الإتفاقيات المتعددة الأطراف، وحاول ضرب وحدة الإتحاد الأوروبي، وأعاد العالم الى عصر الحمائية وفرض الرسوم الجمركية في ضربة لما تحقَّقَ في التسعينات بشأن تأسيس منظمة التجارة العالمية (التجارة الحرّة) الخ...
أبعد ترامب نفسه عن كل القيم النيوليبرالية الأخرى، فشجع بناء الجدار مع المكسيك، وساهم في تأجيج العنصرية ضد السود والمسلمين، وشجّع اليمين الأوروبي على رفض الهجرة، والعودة الى الدولة الوطنية الخ...
وهكذا، يتطلع الغرب النيوليبرالي بقوة الى هزيمة ترامب، لأن فيها ضربة قوية لليمين؛ فبانتهاء الظاهرة الترامبية، سيكون من الأصعب على اليمين في العالم الحفاظ على موقعه المتقدم.
- تأثير الجائحة على اليمين في العالم: لقد أظهرت استطلاعات الرأي في الدول الغربية بعد الموجة الاولى من جائحة كورونا، تراجع أسهم اليمين في تلك الدول، بعدما كان في أوج قوته قبلها. لكن ما أن أُعيد تحرير الإقتصاد - ولو جزئياً- في الصيف، وتراجعت أخبار الإصابات والوفيات، حتى بدأت نسب اليمين ترتفع مجدداً في استطلاعات الرأي.
واليوم، يراهن الغربيون على أن تؤدي الموجة الثانية من الجائحة التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر، إلى تعميق أزمة اليمين وتكريس هزيمته، لا سيما إذا أتت في ظل هزيمة ترامب في الولايات المتحدة. وهكذا تؤدي الانتخابات التي ستجري في العديد من دول العالم بين عامي 2021 - 2022 (منها ألمانيا، فرنسا، البرازيل، السويد، هنغاريا، إيطاليا، الهند...) إلى عودة مظفرة للقوى النيوليبرالية في تلك البلدان، وبالتالي عودة النظام القديم الى عهده وإعادة تكريس العولمة، والتي وصفها هنري كيسنجر ذات مرة، "ما يُسمى بالعولمة هو في الحقيقة إسم آخر للدور المهيمن للولايات المتحدة الأميركية."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق