منذ الانقسام الذي شهدته الساحة اللبنانية عام 2005 وما تلاها، استفاض “المستقبل” وحلفاؤه في طرح شعارات جذابة، مصنّفين أنفسهم من فئة "الاستقلاليين السياديين" الداعين إلى تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية التي لا يقوى على تحمل تبعاتها، ومتهمين المعارضة السابقة بزجّ لبنان بمحاور إقليمية، وأنها تنفذ أجندة خارجية، وهكذا كان طرحهم عنوان “لبنان أولاً”، والذي أرادوا له أن يعني كل هذه الشعارات الرنانة.
لكن مسار الأحداث، وما يتكشف في وثائق “ويكليكس” يوماً بعد آخر، يشير إلى أن الشعار المطروح لم يكن يوماً مطابقاً للأفعال التي يقوم بها “المستقبل” وحلفاؤه، بل يأتي مجافياً لمسيرتهم السياسية؛ منذ نشأتها وحتى اليوم.
يمكن للمراقب الموضوعي أن يرصد العديد من المحطات القريبة والبعيدة الدالة على ذلك، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، الخطاب الهجومي الذي تبرّع به رئيس حكومة تصريف الأعمال؛ سعد الحريري، ضد إيران، مستدرجاً بذلك لبنان إلى ساحة الصراعات والمحاور الإقليمية، خدمة لمصالح بعيدة كل البعد عن الاعتبارات اللبنانية ومصالح اللبنانيين، الذين ساعدتهم إيران ووقفت إلى جانبهم في أحلك الظروف وأصعبها، وأهمها مرحلة إعمار ما بعد حرب تموز 2006.
ثم كيف تتطابق شعارات “المستقبل” وحلفائه أيضاً مع ما يقومون به ضد سورية، وهم على مدى سنوات ست، ملؤوا الشاشات إعلانات حول "وجوب إقامة علاقات ندية بين لبنان وسورية"، واحترام سيادة كل من البلدين، وعدم التدخل السوري في الشؤون اللبنانية؟! كيف هذا والتدخل اللبناني في الشؤون السورية فُتح على مصراعيه خلال الأحداث الأخيرة التي تحصل في سورية، وإن لم يكن التدخل الحريري بالمال والسلاح، كما تقول التحقيقات السورية وينكر هؤلاء، فعلى الأقل من خلال التحريض الإعلامي المفضوح ضد النظام السوري الذي تشهده المحطات الإعلامية الموالية لـ”المستقبل” وحلفائه، وجميع مواقعهم الإلكترونية، وعلى صفحات “الفيسبوك”، بالإضافة إلى ما كشفته الاعترافات التي بثها التلفزيون السوري لثلاثة من المتورطين، والتي تشير إلى دور أساسي لعضو كتلة “المستقبل”؛ جمال الجراح، في مدّ الإرهابيين والمخربين داخل سورية بالمال والسلاح.
من دون شك، لم يظهر الحريري وحلفاؤه سياديين أبداً في وثائق “ويكيليكس”، التي استدعوا فيها الإسرائيلي لاحتلال لبنان، ولا في النصائح التي قدموها للإدارة الأميركية وللإسرائيليين؛ خلال الحرب وما قبلها وما بعدها، ولا يبدو الحريري كذلك في الرسائل التي طُلب منه توجيهها إلى الخارج والداخل عبر البوابة اللبنانية، وحيث تبرع الحريري مجدداً، كما قام خلال السنوات الماضية منذ مقتل والده، في جعل لبنان ميداناً تتبادل فيه الأطراف الإقليمية والدولية رسائلها بالواسطة، وساحة إلهاء يستخدمها الأميركيون للإلهاء عما يحصل في المنطقة.
واليوم، كما في السابق، يبدو أن هناك استحقاقات أميركية تحتاج إلى دخان هنا، وفي أماكن متفرقة في الإقليم للتعمية عليها، خصوصاً التعمية على تنفيذ الثورة المضادة التي يقومون بها.
أما أهم الاستحقاقات الأساسية في المنطقة التي تستلزم التغطية، فهي:
- الاستحقاق الأول في ليبيا، وما يقوم به حلف شمال الأطلسي من قصف للمدنيين والثوار وقوات القذافي معاً، واعتماد استراتيجيات تظهر أن هناك مخططَاً ما أو خريطة طريق تنفذ قد تؤدي إلى تقسيم ليبيا بين القذافي والثوار.
- الثاني في العراق، وما يقوم به الأميركيون من ضغوط على المسؤولين العراقيين لطلب تمديد بقاء قسم من جنودهم إلى ما بعد نفاذ الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية، التي تنهي الاحتلال العسكري الأميركي في كانون الأول 2011.
- الاستحقاق الثالث، ما يحصل في الخليج، والتدخل العسكري الذي حصل في البحرين، وازدواجية المعايير الدولية والعربية في التعامل مع الثورات الشعبية، وتحويل الأنظار عما يجري من خلال اتهام إيران بالضلوع في أحداث البحرين، التي لم يثبت أي مؤشر لعلاقة الإيرانيين بها حتى الآن.
تريد أميركا الإلهاء عن هذه الأحداث والثورة المضادة التي تقوم بها في المجتمعات العربية الثائرة، من خلال إثارة الفوضى في المنطقة، وتقويض الاستقرار في سورية، من خلال العصابات المتنقلة التي تروّع المواطنين وتخلّ بالأمن، ولا شك أن هناك مبررات كثيرة تجعل أميركا تراهن على النجاح في خطتها للثورة المضادة لثورة الشعوب في العالم العربي، منها وجود عملاء لها في الحكم في معظم الدول العربية، وأيضاً وجود دول عربية كبرى تطوعت لإنجاح الخطة بكل ما لديها من قدرات إعلامية تعمل ليل نهار، أو من خلال الحركة السياسية، أو الدعم الميداني اللوجستي من خلال الإمداد بالسلاح والتجهيزات والمال.
لكن، أين الحريري الشاب من كل هذا في خطابه التصعيدي ضد إيران، وحركته السياسية المستمرة، هو وحلفائه، بالتحريض ضد سلاح المقاومة وسورية؟
في تقييم حركة الحريري الاستعراضية منذ شباط الماضي، خصوصاً خطابيْه التحريضييْن ضد السلاح وإيران، نراه يعمل على خطين متقاربين: سعودي خاص.. وأميركي عام.
لدى الحريري وحلفائه تكليف أميركي دائم لإشغال المقاومة في الداخل، وإغراقها بفتن داخلية تلهيها عن التفرغ للصراع مع العدو، وذلك من خلال فتح جبهات داخلية دائمة لا تسمح للبنانيين ولا للمقاومة بالتقاط الأنفاس، ويأتي في هذا السياق حملته الإعلانية والإعلامية ضد السلاح خلال الشهرين الماضيين. أما خطابه الأخير، والذي حمّل فيه إيران مسؤولية "خطف المجتمعات العربية"، وشنّ عليها هجوماً لاذعاً محملاً إياها مسؤولية ما يحصل في البحرين والكويت ولبنان، فيبدو رسالة سعودية بامتياز.
من المؤكد بعد الرسالة السعودية تلك التي تلاها الحريري، أن شعارات السيادة والاستقلال وإخراج لبنان من صراع المحاور، لم تعد تنطلي على أحد من اللبنانيين. لذلك، سواء كانت سعودية أم أميركية أم غير ذلك، لم تكن رسالة سعد الحريري موفقة، فقد زجت لبنان في صراعات لا دستوره ولا توازنه ولا وحدته الداخلية الهشة تسمح بها، أضف إليها أنها عرّته (مجدداً) وفريقه، وكشفت زيف شعاراتهم.
•• أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق