يعيش الاتحاد الاوروبي اليوم، مرحلة غير مسبوقة في تاريخه
الحديث. فلأول مرة، منذ تأسيسه واعتماد مبدأ حرية الحركة وعبور الأشخاص والبضائع، وبسبب
أزمة الكورونا، تقفل الدول الأوروبية حدودها أمام مواطني دول أوروبا الآخرين.
كانت معاهدة ماستريخت نتيجة لمحطات طويلة وبطيئة من التكامل
الأوروبي والعمل المشترك، بدأت في 18 أبريل/نيسان 1951 عندما اتفقت ست دول (فرنسا وألمانيا
وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا وإيطاليا) على تشكيل المجموعة الأوروبية للفحم والصلب ،التي
شكّلت نواة المجموعة الاقتصادية الأوروبية (وقّعت الاتفاقية في آذار 1957) ثم الاتحاد
الأوروبي فيما بعد.
ولقد فتحت معاهدة ماستريخت الباب أمام التكامل السياسي
والاقتصادي بين البلدان الأوروبية، وتوصلت الى ممارسة سياسة خارجية ودفاعية مشتركة
بالاضافة الى توحيد العملة النقدية الخ...
وبالرغم من تباين السياسة الخارجية الاوروبية في العديد
من المحطات التاريخية، إلا أن الاتحاد بقي متماسكًا سياسيًا، وعسكريًا، لكن أزمات كبرى
ضربته، أهمها:
1-
الازمة الاقتصادية العالمية 2008:
والتي بدأت معها عمليًا المصاعب الحقيقية للاتحاد، فالوعود
بمستويات معيشية مرتفعة وتعزيز فرص العمل داخل المنطقة الأوروبية، عطّلها العجز الذي
وقعت فيه موازنات تلك البلدان، مما دعاها الى التقشف وخفض الإنفاق على برامج الخدمات
الحكومية خاصة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم، بالاضافة الى موجات تسريح للموظفين،
وتقليص القطاع العام الخ... هذه الأمور بالاضافة الى تراجع النمو وارتفاع البطالة،
ساهمت بارتفاع أسهم المشككين بمستقبل الاتحاد وجدواه من المواطنين الأوروبيين.
2-
موجات الهجرة غير الشرعية:
لطالما عانى الاتحاد الاوروبي من الهجرة غير الشرعية،
لكن الأزمة الأخطر التي واجهت الاتحاد هي الموجة الكبرى للجوء عام 2015 والتي أعلنت
خلاها المستشارة الإلمانية أنغيلا ميركل، فتح الأبواب للاجئين مهما كانت أعدادهم.
ترافقت تلك الموجة الكبرى مع عمليات ارهابية ضربت عمق
دول الاتحاد، واتهم فيها متطرفون اسلاميون، مما زاد الضغط على دول الاتحاد خاصة ألمانيا
التي طلبت من دول الاتحاد، الالتزام بسياسة الهجرة وتوزيع اللاجئين، لكن الدول الأوروبية
رفضت، وهدد العديد بالخروج من الاتحاد فيما لو تمّ إجبارهم على استقبال اللاجئين بحسب
ما تنص عليه اتفاقية "دبلن".
3-
ارتفاع أسهم اليمين، وخروج بريطانيا
لا شكّ أن عوامل عدّة ساهمت في ارتفاع أسهم اليمين الأوروبي،
فانعدام النمو وازدياد البطالة، بالاضافة الى عوامل أخرى كاللاجئين وانعدام الأمن وتزايد
العمليات الارهابية، والخوف من فقدان الهوية والخصوصية الثقافية الخ...كلها عوامل أدّت
الى التشاؤم من مستقبل الاتحاد، فارتفعت أسهم اليمين الذي استطاع الاطاحة بالعديد من الحكومات في الاتحاد،
وتسجيل أرقام تاريخية في انتخابات البرلمان الاوروبي نفسه.
ولا شكّ أن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي سيساهم
في إضعاف الاقتصاد كقوة سياسية، ناهيك عن الدعوة التي وجهها ترامب للبريطانيين لتأسيس
اتحاد جمركي مع ما يعنيه هذا من خسارة اقتصادية للاتحاد الاوروبي.
4
- الأزمة المستجدة: وباء الكورونا (كوفيد - 19)
كشفت هذه الأزمة عن هشاشة لم تعرفها دول الاتحاد من قبل،
فبالاضافة الى اغلاق الحدود، كشفت الازمة أن التكامل الاقتصادي الذي صمد لفترة طويلة،
قد ينهار أمام عمق الازمة الحالية.
عاشت دول الاتحاد طويلاً في تكامل اقتصادي فعلي، فالبضائع
المصنّعة في أي دولة من دول الاتحاد وبسبب غياب الحمائية وانعدام التعرفات الجمركية،
لم تعد تحتاج الى تصنيعها في بلدان أخرى. ولكن، الأزمة المستجدة، كشفت أن ما يصحّ خلال
فترة السلم، قد لا يكون متوافرًا خلال الازمات. فلقد وضعت بعض الدول الاوروبية قيودًا
على التصدير، فمنعت تصدير المستلزمات الطبية والأدوية والأقنعة الى الخارج، على سبيل
المثال، رفضت المانيا تسليم 240 الف قناع طبي لشركة استيراد سويسرية، كما رفضت فرنسا
تسليم أدوات طبية الى بريطانيا بموجب عقود سابقة، كما رفضت تشيكيا تسليم معدات كانت
السويد قد دفعت ثمنها مسبقًا.
إذًا، إن الدروس المستخلصة من هذ الازمة الجديدة التي
ضربت العالم، ومعه الاتحاد الاوروبي، ستدفع بحكومات الاتحاد الاوروبي، الى مراجعة شاملة
لمبدأ "التكامل الوظيفي" الذي اعتمده الاتحاد الاوروبي خلال تأسيسه وتطوره.
من الآن فصاعدًا، إن ارتفاع منسوب "التعصب الوطني"
لن يكون حكرًا على المجتمعات الاوروبية أو على اليمين الاوروبي فحسب، بل إن حكومات
الاتحاد - حتى تلك الأكثر ليبرالية - سوف تعيد النظر في سياسات الاعتماد المتبادل،
وبالتالي سوف تشهد أوروبا مزيدًا من التوجهات اليمينية والسياسات "الوطنية"،
وسيكون السؤال الأكثر جوهرية لدى المواطنين: لماذا أحتاج الى الاتحاد الاوروبي؟...
فهل يمكن أن تدفع أزمة الكورونا الجديدة، الى تغيير جذري في تركيبة الاتحاد الاوروبي
برمته؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق